10-الائمة الاثناعشر

الفصل العاشر من كتاب مؤامرة المسلمين على النبي محمد (ص)
فهرس الفصل:
مقدمة, من هم الائمة؟, بين الخلفاء الظلمة وأئمة آل البيت صراع لايتوقف, أسماء الائمة , الامام الاول, الامام الثاني, الامام الثالث, الامام الرابع, الامام زين العابدين في عهد عبدالملك , استشهاد الامام, الامام الخامس , الامام السادس, الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المتسمي بالمنصور ينشأ مرجعيات فقهية لعزل مرجعية الامام الصادق , استشهاد الامام, الامام السابع , بين الامام الكاظم وهارون العباسي, من كرامات الامام الكاظم, استشهاد الامام, الامام الثامن, اغتيال الامام, الامام التاسع, استشهاد الامام الجواد , عمر قصير حافل بالعطاء, الامام العاشر, الامام الجواد يوص بالامامة من بعده لابنه الامام الهادي, صراع الظلمة مع الائمة لايعرف الاعمار, المتوكل العباسي يسعى لاغتيال الامام فيخطفه الموت بدعاء الامام, الاضطرابات في الدولة ودور الامام في الدعوة, الامام يهيئ الامر من بعده للحسن العسكري ثم لقائم آل محمد, استشهاد الامام, الامام الحادي عشر, الامام الهادي يعلم خاصته بإمامة الحسن العسكري, بين الائمة وخلفاء الجور صراع لاينتهي إلا بالموت, كيف اتصل الامام بشيعته, الامام الحسن العسكري يمهد لعصر الغيبة, استشهاد الامام الحسن العسكري, الامام الثاني عشر القائم المنتظر عليه وعلى آبائه السلام, لماذا الغيبة الصغرى ولماذا غيبة كبرى, الامام المهدي في التراث الانساني وفي الاديان, بشارات الاديان بالمهدي المخلص, هل فكرة المهدي في الاسلام مأخوذة من الاديان السابقة ومن تراث الشعوب؟, بشارات النبي (ص) والائمة بالمهدي , سبب غموض فكرة المهدي عند جمهور السنة وسبب الاختلاف بين السنة والشيعة في ذلك, هل حقا أن الامام المهدي بن الحسن العسكري لم يولد!, شبهة العمر الطويل للأمام المهدي, تساؤلات عن الغيبة وزمن الظهور, الاستعداد النفسي والثقافي للناس في العصر الحالي, مشاركة الاجيال في محن المظالم, لماذا لم يقم الائمة بالثورة على الظلمة؟.



-10-الائمة الاثناعشر !

قال النبي (ص) : (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة) ( صحيح مسلم , باب الامارة)! أي أن هذا الدين لاينقضي حتى ورود إثنا عشر خليفة من بعد النبي (ص). وتمام نص الحديث كما يلي :
عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله بعرفات فقال: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً ظاهراً على من ناواه حتى يملك إثنا عشر كلهم. قال: فلم أفهم ما بعد. قال: فقلت لابي ما قال بعدما قال كلهم؟! قالكلهم من قريش.) ( مسند أحمد ج5 ص 93)  وفي رواية أخرى يقول رواي الحديث : ( ثم تكلم بكلمة لم أفهمها وضجَّ الناس فقلت لأبي ماقال ؟ قال : كلهم من قريش ) (مسند أحمد ج5 ص93), فجابر بن سمرة ينقل عن أبيه لا عن النبي, بأن النبي  قال بعد (كلهم) عبارة ( منقريش!). تأمل أن الحديث قيل في عرفات في موسم الحج ولهذا لم يسمع راوي الحديث ماقاله النبي (ص) بسبب جموع  الناس وضجيجهم, فسأل أبيه عن ماقاله النبي في آخر عبارته , فالعبارة الاخيرة  من الحديث وهي ( كلهم من قريش)  لم يسمعها رواي الحديث أنما نقلها عن أبيه.  تزداد ظروف الحديث وزمنه وضوحا في المعجم الكبير وكما يلي :
عن جابر بن سمرة قوله :فسمعته يقول: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً حتى يملك إثنا عشركلهم...ثم لغط القوم وتكلموا فلم أفهم قوله بعد ـ كلهم ـ فقلت لأبي: ما قال بعد ـ كلهم ـ؟ قالكلهممن قريش) ( المعجم الكبير للطبراني ج2 ص 196).وعلل ابن حجر في كتابه فتح الباري عند ذكره لهذا الحديث أن سبب عدم سماع جابر لكلام الرسول يعود - واللفظ لابن حجر ( فكبر الناس وضجوا) , اذن ضجيج الناس ولغطهم حدث عندما بين النبي(ص) من هم أولئك الائمة الاثني عشر .
ذُكر الحديث  البخاري ومسلم  كذلك ,وهما لايذكران لغط الناس وضجيجهم بل يذكران الحديث كما يلي :

عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي على النبي (ص) , فسمعته يقول : (إن هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة . قال ثم تكلم بكلام خفي علي . قال :فقلت لأبي : ماقال؟ قال : كلهم من قريش) ( صحيح البخاري رقم الحديث 7222,  صحيح مسلم رقم الحديث 1821) . هنا يرد أحتمال وهو أن النبي(ص) لم يقل (كلهم من قريش) , فربما قال كلهم من ولد فاطمة , أو كلهم من ولد علي, أو كلهم من بني هاشم, أو غيرها , ولهذا لغط الناس وضجوا ! وليس هذا بجديد على الناس, ففي حديث رزية يوم الخميس في كتاب البخاري, يقول النبي قبل وفاته أتوني بكتاب ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا به من بعدي أبدا, فيضج من في الدار من الصحابة ويقول أحدهم وهو عمر أتركوا الرجل فأنه يهجر حسبنا كتاب الله , ولم يأتوه بالكتاب والدواة , وقد مر بنا هذا الحديث في فصل نظام الحكم في بداية الكتاب , وهذا دليل على ان لغط الناس وضجيجهم في موسم الحج كان بسبب تحميل  النبي (ص) للائمة الاثني عشر صفاتا لم ترض قريش عنها ولم تستسيغها الجموع كما لم يستسيغوا وصيته ولم يأتوه بالدواة والكتاب, وكما أولوا حديث الغدير في ولاية علي وتركوه وخانوا وصية النبي (ص) وقد تقدم ذكر حديث الغدير كذلك فيما سبق.  المهم والمتفق عليه أن النبي (ص) حدد عدد أولئك الائمة , أما كونهم من قريش أو غير ذلك فهذا بحث آخر,وهناك  أحاديث أخرى بينت ماقال النبي بالتفصيل سيأتي ذكر بعضها لاحقا, أما الحديث أعلاه فقد ورد في كتب الجمهور .
في مسند أحمد  إشارة أخرى حول الحديث  : عن مسروق قال (كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله كم تملك هذه الأمة من خليفة فقال عبد الله بن مسعود ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال نعم ولقد سألنا رسول الله (ص) فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل) ( مسند أحمد رقم الحديث 3772)
هذا الحديث الاخير يدل على أن النبي (ص) قد تحدث أكثر من مرة عن الائمة الاثني عشر الذين سيأتون من بعده, فأمر مهم كهذا الامر لايمكن أن يذكره النبي مرة واحدة ,ولايمكن أن يُحاط بالغموض, ثم تأمل ان الحديث الاخير لا يلحق عبارة ( كلهم من قريش) بالحديث, فعبارة (كلهم من قريش ) تماشت مع العرب القريشيين الذين تسدوا الخلافة, ولهذا وجد هذا الحديث في كتب الجمهور. فمن هم هؤلاء الخلفاء الذي بشر بهم النبي؟ وماهي أسمائهم وصفاتهم؟
إن الخلافة التي بشر بها النبي (ص) هي خلافة ربانية , فليس بالضروري أن يكون خليفة النبي متربعا على كرسي الخلافة, لأن الناس بعد رحيل النبي قرروا من يكون الخليفة على الرغم من وصيته (ص) للناس بأن الخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب ( راجع فصل السقيفة وفصل الامام علي). فعلي بن أبي طالب خليفة رسول الله بنص حديث الغدير وغيره من أحاديث تقدم ذكرها , لكن النتيجة أن علياً لم يتسدى الخلافة بعد النبي بل أخذها غيره ثم غيره ثم غيره , واللوم في ذلك يقع  على الناس الذين ضربوا بوصايا النبي عرض الحائط ونصبوا لأنفسهم خليفة . فهل تصرف الناس واختيارهم رجلا آخر يغير من بشارة النبي بالخلفاء ؟  ليس كذلك فالخلافة والامامة منصب رباني يهبه الله لعباده المصطفين, (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة آية رقم 24), وكقوله تعالى لابراهيم ع (إني جاعلك للناس أماما)(البقرة 124) . ولداود ع : (يا داود إنا جعلناك خليفة فِي الأَرْضِ)( ص38). وكما قال عز وجل للملائكة في آدم: (إني جاعل في الارض خليفة)( البقرة 30) ,فالامامة مجعولة من الله تعالى لعباد معينين ولايمكن إدعاؤها إعتباطا بأنتخاب أوبيعة ,فالامام معين من الله من بين جموع الناس, أما رفض الناس لهؤلاء الائمة و الخلفاء فلن يغير من الحقيقة شيئاً. إن الانبياء الذين أتوا لبني البشر لم يفلحوا جميعاً في نشر دعوتهم ولاقوا عنادا وحربا من الناس بل قُتل كثير منهم ( ..ويقتلون الانبياء بغير حق.. )( آل عمران 112)  , فهل يغير ذلك من تشرف الانبياء بشرف النبوة؟ وهل رفض الناس لهم  يجردهم من منصب النبوة؟ ليس كذلك , يبقى الانبياء رسل الله تعالى في أرضه على الرغم من رفض الناس لهم والخاسر في ذلك بنو البشر  الذين رفضوا دعوة الانبياء ورفضوا قبولهم كمرسلين من الله تعالى. وكذلك الخلفاء الاثنا عشر الذين بشر بهم النبي (ص) , لم يتجردوا من منصب الخلافة والامامة على الرغم من أتخاذ المسلمين خلفاء وائمة غيرهم, بل ظلوا أئمة وخلفاء بنص الحديث  الشريف
إن الامة التي نَحَّت الخليفة الذي بشر به النبي من بعده وهو الامام علي , نَحَّت كذلك الائمة من بعده واختارت ملوكا أنتحلوا منصب الخلافة , فقال الناس أن هؤلاء الملوك والخلفاء هم خلفاء النبي بنص حديثه, وهو تفسيرسفيه قال به وعاظ السلاطين وكتبة البلاط . إن البحث في تفسيرات رجال الجمهور بخصوص حديث الائمة الاثني عشر يرينا فوضى في تفسير الحديث,  فقد اتفق بعضهم على أن الخلفاء الاربعة الاوائل ( ابوبكر , عمر , عثمان , علي)هم من الائمة الاثني عشر, وإن كان بعضهم لم يذكر عليا بن أبي طالب منهم , أما بقية العدد وهم ثمانية فقام كل فقيه منهم بادلاء دلوه على نحو مختلف من صاحبه, فمنهم من عد معاوية ويزيد وخلفاء بنو أمية من الائمة وهو قول ابن تيمية:
( أن النبي قال لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش ولفظ البخاري اثنى عشر أميرا وفي لفظ لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم أثنا عشررجلا وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة كلهم من قريش وهكذا كان فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هوباق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيزة) ( (منهاج السنة لابن تيمية ج8 ص 238) .  تأمل كيف يجعل يزيد بن معاوية قاتل الحسين وآل بيت النبي (ص) من الائمة الاثني عشر الذي بشر بهم النبي (ص)! فيكون حسب قول ابن تيمية , أن النبي (ص) قد بشر المسلمين بقاتل حفيده الحسين , وجعل ذلك القاتل وهو (يزيد) من الائمة الاثني عشر التي سيكملون عزة الاسلام . إن النبي (ص) يُسمي الحسين بسيد شباب أهل الجنة بأتفاق أهل الحديث والتاريخ فهل يعقل أن يكون قاتله إمام عادل من الائمة الاثني عشر؟ إن الذي ينصب العداء لآل بيت النبي (ص) يستحل كل شئ وفقاً لأهوائه ومنهم هذا المدعو ابن تيمية الحراني.  بعض الفقهاء محا يزيد من خانة الائمة الاثني عشر لجريمته في كربلاء , ومنهم من توقف في ذلك واضاف بدله الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز للاربعة الاوائل, ثم أحتار كذلك ولم يكمل بقية العدد , ومنهم كالسيوطي الذي اخرج  بني أمية من مجموعة الاثني عشر خليفة الغامضة , ووضع بدلا منهم بعض خلفاء بني العباس ( مقدمة تاريخ الخلفاء للسيوطي) , ويلخص ابن الجوزي فوضى العلماء واختلافهم في تفسير هذا الحديث بقوله  (هذا الحديث قد أطلت البحث عنه وطلبته مظانه وسألت عنه فما رأيت أحدا وقع على المقصود به) ( كشف المشكل في حديث الصحيحين ص 179 لابن الجوزي) . 
إن هذه الحيرى عند علماء الجمهور تعود الى الخلط بين منصب الخلافة الربانية وبين منصب الخلافة الدنيوية الذي أغتصبه الخلفاء. فظن القوم أن كل من يتربع على عرش السلطة يستحق لقب خليفة رسول الله ؟  وهذا تعدي على حديث النبي الكريم (ص) ووصاياه , وتشويها لشخصه العظيم , فكيف يكون خليفة رسول الله فاجرا يعاقر الخمر ويأتي الغلمان ويذبح العباد ويسبي البلاد كما هو الحال عند كثير من الخلفاء والسلاطين؟  لقد أحجم علماء الجمهور عن البت في هذا الحديث وجعلوه كلغز أو أحجية استعصت على الاجيال. فهل حقا يبلغ النبي(ص) الناس بالتلميح ويغلف أقواله بالغموض؟ الحقيقة أن النبي (ص) قد بين من هم هؤلاء الائمة الاثني عشر ­­­, بل ذكرت أحاديث كثيرة أنه سماهم باسمائهم والقابهم وزمن قدومهم , لكن كتبة البلاط وأنصار الخلفاء والملوك المتسلطين على رقاب الناس طمسوا تلك الاحاديث ولم يظهروها لأن سادتهم من الخلفاء لم يكونوا ضمن الاثني عشر خليفة , وحيرتهم في تفسير هذا الحديث دليل ساطع على ذلك. هناك عامل آخر على غموض هذا الحديث إلا وهو التكتم والخوف من السلطات على نشر هذا الحديث, فبعد طمس الحديث أيام الخلفاء الثلاثة الاوائل ونتيجة للبعد الزمني عن تحقق  الحديث, تناسى الناس هذا الحديث وبقي متداولاً بتفسيره عند الائمة الاثني عشر أنفسهم , فكانوا لايجودون بتفسيره إلا على أتباعهم وأنصارهم المقربين. إن السلطة الغاشمة التي تعرفنا عليها في فصول الكتاب لاتتهاون عندما يتعلق الامر بالامامة والرياسة ,فصار تفسير الحديث من المتكتمات عليه عند الائمة, فكان الأمام لايعلن أمام عوام الناس من هو الامام من بعده خوفا عليه من القتل , بل يعلن ذلك لخاصته واتباعه المقربين, والسبب يعود  الى ظلم المسلمين وظلم الخلفاء المنتحلين لمنصب الامامة والخلافة. 
إن الامام الاول من مجموعة الاثني عشر خليفة هو الامام علي بن أبي طالب, وهو الوحيد الذي حمل لقب الامام رغما عن أنوف الخلق, ولازال اسمه يقترن بالامامة دائما, فلايقال الامام أبوبكر أو الامام عمر أو الامام معاوية, بينما يقول المسلمون على اختلاف مذاهبهم أن علياً أمام ويدعونه بالامام علي دائما , فتامل!  ثم  تأمل كيف كان موقف المسلمين من هذا الامام الاول أيام احداث السقيفة , وكيف لاقى هذا الرجل العظيم من حيف المسلمين عندما جردوه من منصبه الشرعي الذي حدده النبي في حديث الغدير الذي تقدم ذكره في فصول الكتاب. إن خيانة المسلمين لوصية النبي في أمامة الامام الاول علي بن أبي طالب مثال جلي على قابلية المسلمين وحكوماتهم في خيانة الائمة الباقين كذلك . لقد عين النبي (ص) عليا لخلافة الأمة كما في حديث الغدير وغيره وكذلك نبأه أن ذلك لن يتحقق لأن الامة ستغدر به , (أن الأمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملتي وتقتل على سنتي من أحبك فقد أحبني ومن أبغضك فقد أبغضني وإن هذه ستخضب من هذا)( المستدرك على الصحيحين للحاكم ج3 ص 153 رقم الحديث 4686), وقيم الحاكم هذا الحديث وقال أنه حديث صحيح ! إذن أول أمام مجعول من الله على المسلمين أبعده المسلمون عن منصبه وأغتصبوا  حقه, فلا يقول قائل أن المسلمين لو عرفوا من هم هؤلاء الائمة لأطاعوهم؟ فقول ذلك يُجاب عليه بالقول: لقد خان المسلمون الاوائل وصية النبي في أمامة علي, ونحوه عن منصب الخلافة والرياسة وجسد النبي الكريم(ص) لم يوارى التراب بعد, فكيف سيكون الحال بعد سنين وبعد عشرات من السنين؟ إن الامر سيكون أكثرسهولة وانتحال الخلافة سيسهل كذلك. إن الذين حاربوا الامام الاول علي بن أبي طالب أكملوا حربهم للائمة من بعده وتعاونوا على ذلك في سبيل ديمومة عروشهم ,فالمُلك عقيم من أجله يقتل الاب ابنه أوالابن يقتل أبيه في سبيل تسدي كرسي الحكم, فقتل الائمة واغتيالهم وطمس مناقبهم ليس بالامر الشديد عند اولئك الطغاة.





من هم  الائمة ؟
تقدم بنا أن جمهور السنة عجزوا عن تعيين الائمة الاثني عشر وتركوا الحديث غامضاً مبتوراً يقبل عشرات الاحتمالات , لكن مراجع الحديث التي كُتبت خارج سلطة الدولة الغاشمة حددت من هم أولئك الائمة, وليس أمام الباحث عن الحقيقة سوى أخذ قول من فسر الحديث تفسيراً وافيا وسمى الائمة الاثنا عشر وذكر صفاتهم ,  وغَسلَ الحديث من خبث  التفسيرات العشوائية التي قالها أهل الجمهور. لنقرأ هذا الحديث:
 (عن أنس ابن مالك قال : صلى بنا رسول الله (ص) صلاة الفجر ثم أقبل علينا وقال : معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا, ومن استمسك بأوصيائي من بعدي  فقد استمسك بالعروة الوثقى. فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك قال :  عدد نقباء بني إسرائيل ، فقال : كلهم من أهل بيتك ؟ قال :  كلهم من أهل بيتي تسعة من صلب الحسين والمهدي منهم ) ( بحارالانوار للمجلسي ج36 ص 310, أورده الشيخ عبد الله دشتي في النفيس في بيان رزية يوم الخميس ص 413) , تأمل أن نص الحديث يشبه حديث جابر الانصاري الذي تقدم ذكره حيث يقول (نعم ولقد سألنا رسول الله (ص) فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل) ( مسند أحمد رقم الحديث 3772), إلا أن حديث أنس بن مالك في مسند أحمد لم يحددهم , وسبب ذلك أن مسند أحمد كتب تحت رعاية الدولة العباسية فلايجرأ الكاتب على كتب مايغضب الخلفاء فرفع من الحديث تحديد أولئك الائمة واكتفى بأنهم عدد نقباء بني أسرائيل, ولكن المجلسي في بحاره عدهم وذكرهم وكتاب البحار لايرضى به السلاطين والخلفاء.
, أورد كذلك الشيخ دشتي في كتابه ص 414 نصا عن كتاب الكافي بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر أنه قال ( يكون تسعة ائمة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم ) ( الكافي للكليني ج1 ص 525).  هناك عشرات المصادر في تسمية هؤلاء الائمة أنتقينا منها الاثنين أعلاه للاختصار . إذن الائمة الاثناعشر هم من أهل بيت النبي (ص) وتسعة منهم من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب كما في الحديث أعلاه ( يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم) أو قول النبي (ص) : ( كلهم من أهل بيتي من صلب الحسين والمهدي منهم ). هذا الحديث يتكامل مع ( حديث الثقلين) الذي ورد في كتب جمهور السنة وهو  ( إني تارك فيكم الثقلين , أحدهما أكبر من الاخر , كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض, وعترتي أهل بيتي , وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) ( مسند أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري, و كذلك  في كنز العمال ج1 ص172  للمتقي الهندي.) . وقد تم شرح حديث الثقلين وكيف زيف المزيفون الحديث فأهملوا  قول النبي (ص) ( كتاب الله وعترتي) وروجوا أنه قال بدل ذلك ( كتاب الله وسنتي) وذلك في فصل ( الامام علي) فليراجع.
وهاك حديثا آخر:قال النبي (ص) (من سرّه أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً. وويل للمكذّبين بفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي ) ( حلية الاولياء لابي نعيم ج1 ص86, نص الحديث عن موسوعة الملل والنحل للعلامة السبحاني ج6 ص 438), تأمل أن هذا الحديث يبين من هو أول الائمة من بعده حيث يسميه النبي (ص) ويقول أنه عليا ولم يقل الخليفة الاول أو الثاني أو الثالث أوبقية المجموعة التي أحتار في ترتيبها وتعديدها فقهاء الجمهور, وقول النبي (ص) ذلك يدل على باقي الائمة, والحديث اعلاه من كتب الجمهور.
تذكر أيها القارئ أن الحسين بن علي قضى مقتولا على يد الدولة الحاكمة في موقعة كربلاء الدامية, فهل يعقل أن تنشر تلك الدولة قول النبي (ص)  أن تسعة أئمة من الائمة الاثني عشر هم من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب؟  وتَذَكر أيضا أن دولة معاوية سنت قانونا في سب علي بن أبي طالب على منابرها ودام ذلك السب سنين طويلة حتى عهد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز,فنشأت أجيال لاتعرف سوى سب علي ولعنه وأولاده ( راجع فصل أمية, معاوية , باب سب الامام علي على المنابر), فهل ترضى تلك الدولة أن يعرف الناس حديثا للنبي (ص) يقول فيه أن الائمة  من نسل الامام علي بن أبي طالب؟  وتذكر أيها القارئ مذابح الدولة العباسية في آل بني طالب تلك التي تقدم ذكر نتف منها في عهود خلفاء بني العباس, فهل يرضى خلفاء الدولة العباسية بنشر مناقب آل علي بن أبي طالب وهم يذبحون أحفاده وأنصارهم؟ هذه أهم الاسباب التي جعلت وعاظ السلاطين وكتبة البلاط يطمسون ذكر أسماء الائمة الاثني عشر. سياتي ذكر اسماء الائمة الاثني عشر بعد مايلي من مقدمة قصيرة , فرويداً.



بين الخلفاء الظلمة وأئمة آل البيت صراع لايتوقف
بعد رحيل النبي الكريم (ص)  كان ديدن الخلفاء هو التخلص من صاحب الحق  بالخلافة وهو الامام علي بن أبي طالب, فوجوده كان عقبة وغصة في حلوق الخلفاء وأعوانهم, وفي العهود التي أتت بعد ذلك بقي الصراع على السلطة بين حكام الدولة وبين ورثة علوم آل محمد. فكان أولاد علي وأحفاده  خصوم السلطة ,وأعلنوا على الملأ أن الخلفاء مغتصبون للخلافة ولايستحقون ميراث منبر النبي (ص) ولايمثلون دين الاسلام. فكان الصراع شديدا ,ومذبحة كربلاء التي تقدم ذكرها شاهد تاريخي على ذلك . ثم توالت الاجيال وبقي الصراع بين حملة علوم آل محمد (ص) من الائمة وبين خلفاء الدولة الذين تربعوا على عرش الحكم. لم يكن أمام الحكام سوى التخلص من وجود الائمة , إما بالسجن أو بالنفي والابعاد, او بالأقامة الجبرية في منطقة معينة وأخيرا بالموت , وكانت طريقة دس السم التي اتقنها معاوية بن أبي سفيان هي الطريقة المثلى للخلفاء الذين أتوا من بعده في قتلهم للائمة .
إن جميع عمليات الاغتيال بطريقة دس السم هي عمليات سرية لاتحدث ضوضاء ولاتجلب الانتباه مقارنة بعلميات الاغتيال بالسلاح , والجاني في عمليات القتل بالسم يبقى مجهولا ,إلا في بعض الحالات التي يُقام فيها مجلس تحقيقي , وهو شئ لم يحدث في تلك الازمنة , فكان الموت المفاجئ لمعارضي السلطة يُعلل عند العوام بأنه موت طبيعي , لتُلقى جريمة القتل بالسم في عنق القضاء والقدر , ليبقى سر الجريمة مجهولا  إلا عند أهل القتيل واصحابه المقربين. أشتهر معاوية بمقولته ( إن لله جنودا من عسل ), وذاع صيته في دس السم في العسل  لخصومه أو في إرسال جواسيسه و مندوبيه لتنفيذ العملية( راجع فصل أمية , باب أغتيالات معاوية) . وفعل الخلفاء من بعده ذلك الاسلوب, فكانت تصفية الخصوم الذين يحضون بشعبية واسعة لاتُنفذ بقوة السلاح خوفا من غضب الجماهير وخروجها على السلطان, بل تُنفذ بصمت بطريقة دس السم.
لما كان التاريخ يُكتب بأيدي كتبة البلاط ووعاظ السلاطين فأن ذلك ساهم في التعتيم على عمليات الاغتيال التي قامت بها السلطة, فكان كتبة التاريخ الموالون للسلطة يروجون أن سبب موت فلان كان ميتة طبيعية بأنقضاء أجله كأي ميت آخر! ولكن, الميتة الفجائية لشاب أو كهل صحيح الجسم لايعاني من أي مرض تفتح تساؤلات كثيرة عن سبب موته, وإذا كان المقتول معارضا للسلطة الجائرة فأن سبب موته يحتاج الى تحقيق وتفحص, وإذا كان المقتول يشكل خطرا على السلطة وله أتباع فأن سبب موته المفاجئ لايمكن أن يُقبل بأنه موت طبيعي , وتنطبق هذه المزايا على جميع الائمة فهم قضوا حتفهم وهم في شبابهم ,وكانوا معارضين للسلطة ويشكلون خطرا عليها, ولهم أتباع وشعبية واسعة. إن التعتيم الاعلامي والأمني من قبل السلطة على موت خصوم السلطة يكون من القوة الى درجة أنه  يؤدي الى قتل وأغتيال من يروج خبر اغتيال المقتول بيد السلطة . لذا من الصعوبة على العقول السفيهة إدراك دوافع حيل السلطة , فتنطلي عملية الاغتيال على عوام الناس وتبقى فئة قليلة تؤمن في السر أن موت الضحية كان قتلاً بيد السلطة. إن  وفاة الزهراء فاطمة بنت محمد (ص), لم تكن وفاة طبيعية أبدا, فكيف بسيدة في مقتبل العشرين من عمرها لم تعان من مرض أوعاهة طوال حياتها تموت فجأة بعد رحيل أبيها محمد (ص)؟  ( راجع فصل السقيفة , باب الهجوم على بيت فاطمة). إن موت السيدة فاطمة عليها السلام لم يكن بطريقة دس السم , ولكنه كان اغتيالا عنيفا من جراء الهجوم على بيتها كما تقدم ذكر ذلك , ولكن مع ذلك وبتعاقب الاجيال والازمنة ودور كتبة البلاط في التعتيم على قضية القتل , صار موت السيدة فاطمة (ع) موتاً طبيعيا عن أغلب المسلمين , فما بالك أيها القارئ في الذين قُتلوا بطريقة دس السم ! فإذا كان الخلفاء وكتبة البلاط نجحوا في التعتيم على قتل الزهراء فاطمة ومحو ذكر الجريمة من عقول أجيال فمن السهولة أن ينجحوا -ولو قليلاً -في التعتيم على من مات أغتيالا بالسم !
إن سلطة الامويين والعباسيين في قوتها دامت لأجيال عديدة ويعني هذا أن التعتيم الاعلامي والامني على عمليات أغتيال المعارضين سرى على الاجيال فلم تنكشف أسرار تلك الاغتيالات الا بعد ضعف السلطة وسقوطها وحتى بعد كشف تلك الاسرار فأن الاجيال المتعاقبة حفظت ما روجه كتبة البلاط وآمنت بأن الضحايا قضوا حتفهم كغيرهم من الموتى .
سنرى أن جميع الائمة الذين سنورد ذكرهم فيما يلي قضوا حتفهم من دون علة أو مرض وهم في شرخ الشباب أو بداية الكهولة, مما يدل على أن رحيلهم عن هذه الحياة كان بفعل السم الذي سُقوه. ونقول هذه كرامة ربانية للائمة فحياتهم كانت  جهاداً في سبيل الله , والموت بالسم  رزقهم الشهادة في سبيله تعالى, وقتلهم عزاء للمظلومين من بني الانسان وشهادة على مؤامرات الاشرار من المسلمين وغيرهم.  

أسماء الائمة
1- الإمام الأول:  أمير المؤمنين وسيد الوصيين , ابن عم النبي (ص) وسيد أئمة آل بيت النبوة , أسد الله الغالب علي بن أبي طالب : مر بنا في فصول الكتاب الحيف والابعاد الذي عانى منه أمير المؤمنين , فقد تآمر القوم عليه يوم السقيفة وأقصوه عن الخلافة ما استطاعوا , وحرموا زوجته الزهراء فاطمة أبنة النبي الكريم من ميراثها في فدك لأضعافها , لتقضي عليها الصلاة والسلام شهيدة بعد قصة الهجوم على بيتها كما تقدم ذكره. ولما دارت دورة الزمان وتولى الامام علي الخلافة , قام المتآمرون عليه في حروب ثلاث تقدم ذكرها وهي الجمل وصفين والنهروان. فقد سعت عائشة ومعها طلحة والزبير لقتله في معركة الجمل , وسعى معاوية وأنصاره لقتله في معركة صفين , والذي يخرج مخاصما متقلدا سلاحه في مواجهة الاخر لاينتظر سوى أن يقتل أو يُقتل .  لم يهدأ بال المزيفين ومغتصبي الخلافة إلا بعد أغتيال الامام علي بن أبي طالب. إن هذا الرجل العظيم لاقى ما لم يلقى غيره من المصائب والأهوال , وقد كرر في  خطبه قبل أغتياله بمدة يسيرة مخاطباً الناس : ( لقد ملأتم قلبي قيحاُ) , فياله من هم أرهق تلك العظمة !  كانت شهادته عليه السلام أغتيالا بأيدي المسلمين . بعد رحيله صار أمر الأمامة الى ابنه الامام الحسن الزكي.

2- الإمام الثاني: الحسن الزكي بن علي بن أبي طالب: بعد استشهاد الامام علي , قام ابن عباس مناديا في الناس ومشيراً إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ثم قال  
( هذا ابن بنت نبيكم، ووصي إمامكم، فبايعوه)) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 46 ,أعلام الورى للطبرسي ص 209 ,الإرشاد للمفيد ص 207، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 16 ص 30 ,كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 164 ,مقاتل الطالبيين  للأصفهاني ص 34 و 52). كان أغتيال الامام الحسن بن علي على يد معاوية بن أبي سفيان وأنصاره أكمالاً لدور قريش والمسلمين في حرب النبي وآله. فبعد أغتيال الامام علي بمدة يسيرة تخلص معاوية من الامام الحسن بدس السم له , وقد تقدم ذكر ذلك في فصل ( أمية, معاوية..)

3- الإمام الثالث: سيد الشهداء , الحسين بن علي بن أبي طالب . كانت فاجعة كربلاء ولاتزال أكبر دليل على تآمر المسلمين على النبي وعلى آله من بعده , راجع فصل ( أمية, باب كربلاء) .




4-الإمام الرابع : السجاد زين العابدين ,علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب .
في  السنين المشحونة بالصراع على السلطة في عهد بني أمية , أنجرت الامة الى طرق متشعبة وظهرت فرق جديدة , وبدا وكأن الدين نفسه صار أساس الخلاف ومنبع الضياع نتيجة التحزبات والصراعات على السلطة.
من بين سحب الضياع تلك كان هناك منبع للنور يجاهد تلك التحريفات ويتفادى مكائد الحكام والمحرفين,  إنه الأمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالسجاد وبزين العابدين , الامام علي بن الحسين حامل علوم النبوة الذي نجا من مذبحة كربلاء بلطف الله ورحمته فلم يشارك في المعركة لمرضه وأن كان قد حضرها, وتلك معجزة ربانية يدركها العارفون, فلا تخلو الأرض من حجة لله على خلقه . عند استشهاد أبيه الحسين في كربلاء كان عمر الامام علي بن الحسين ثلاث وعشرون عاما . لقد مرت على هذا الرجل الرباني مصائب قلما مرت على غيره فقد رأى استشهاد أبيه وأخوته وأبناء عمومته وأنصار أبيه  في كربلاء , وساقه جيش الطاغية يزيد مع عمته ونساء آل بيته أسارى مكبلين بالقيود من كربلاء الى دمشق , كان الموت يتخطف هذا الرجل في كل يوم في دولة بني أمية , ولكن لطائف الاقدار كانت تحفظه, ومثلما نجا السجاد علي بن الحسين من مذبحة كربلاء في عهد يزيد, فأنه كذلك نجا بلطف الله ورعايته من مذبحة الحرة التي تقدم ذكرها حيث كان يقيم يومها في المدينة المنورة , وكان أمر الطاغية يزيد لقائد عسكره أن لايتعرض للأمام السجاد , فلم يكن قد مضى عام آنذاك على مذبحة كربلاء تلك التي أفنى فيها جيش الخلافة آل محمد ونجا منها السجاد بلطائف الاقدار, فكان أمر الطاغية بالكف عنه هدنة بعد تلك المذبحة. لقد حاول الطاغية يزيد قبل ذلك  قتل الامام السجاد من بعد موقعة كربلاء , فعندما أتى الجلاوزة بالامام أسيراً الى يزيد في دمشق,  عَرُّفَ الامام نفسه  في قصر الخلافة أمام الحضور ,فأرعب الطاغية وحاشيته , قال الامام  أمام حاشية يزيد في دمشق:
(يا معشر الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا اعرفه نفسي، أنا ابن مكة ومنى، أناابن مروة والصفا، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى، أنا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى، انا ابن علي المرتضى، انا ابن فاطمة الزهرا، انا ابن خديجة الكبرى، انا ابن المقتول ظلما أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الارض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى، أنا ابن من حرمه من العرق إلى تسبى، أيها الناس ان الله تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن، حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا، فضلنا أهل البيت بست خصال: فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحةوالمحبة والمحلة في قلوب المؤمنين، وآتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين من قبلنا، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب.) ( مناقب آل بني طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 305 , الاحتجاج للطبرسي ج2 )
لم يصبر الطاغية يزيد على كلام الامام فقال له :(صدقت يا غلام ولكن أراد أبوك( الحسين) وجدك ( علي بن أبي طالب) أن يكونا أميرين والحمد لله الذي قتلهما وسفك دماهما، فقال الامام علي السجاد: لم تزل النبوة والامرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد.) فكان جواباً قويا في وجه الطاغية الذي لم يرى قبل ذلك من يخالف رأيه ! ذكر المؤرخ  المدائني أنه ( لما انتسب السجاد إلى النبي قال يزيد لجلوازه: ادخله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه، فدخل به إلى البستان وجعل يحفر والسجاد يصلي فلما هم بقتله ضربته يد من الهواء فخر لوجهه وشهق ودهش فرآه خالد بن يزيد وليس لوجهه بقية فانقلب إلى أبيه وقص عليه فأمر بدفن الجلواز في الحفرة واطلاقه) ( المناقب لابن شهر آشوب ج3 ص 309) . صار البستان بعد ذلك يطلق عليه مشهد زين العابدين الى أن أزالته الدولة العثمانية وقد حقق في ذلك العلامة الكوراني في كتابه جواهرالتاريخ ج4 .
ونقول ان هذه الحادثة جعلت يزيدا لايتعرض للأمام السجاد بعد ذلك , فقد تمنى الطاغية ومن سبقه بقتل جميع آل محمد ودفن تراثهم ليتسنى لهم التلاعب بدين الله, وما مر من مذابح واغتيالات شواهد على ذلك , لكن للاقدار خط آخر لايفهمه السفهاء, فبقاء الامام السجاد حيا أمرُ لابد منه لنفي الخبث والتحريف عن دين جده محمد (ص) , وليتبعه جمع من المخلصين حتى النهاية, وهو ما تم.
في عهد الصراع على الملك أيام مروان بن الحكم وابن الزبير كما مر بنا, كانت هناك ثلاث رايات في الدولة ,الاولى هي راية مروان بن الحكم حاكم الدولة الاموية في الشام, وراية عبد الله بن الزبير في الجزيرة العربية , وراية المختار الثقفي الذي خرج في العراق للثأر من قتلة سيد الشهداء الامام الحسين . كل راية من هذه الرايات كانت تنادي بشرعيتها لحكم الدولة وأولويتها على الاخرين , تمكن المختار الثقفي من تصفية جميع الذين وقفوا ضد الامام الحسين في كربلاء , فكانت ثورته بشرى وسرور للمؤمنين , حتى قال الامام السجاد علي بن الحسين: (الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوّي وجزى الله المختار خيراً )( البحار للمجلسي ج 45),  وكتب المختار الثقفي وهو في أوج انتصاراته الى الامام السجاد علي بن الحسين يعرض عليه قيادة الثورة والاخذ بزمام الامور ( راجع مروج الذهب ج3 ص 83, وعن جهاد الامام السجاد لمحمد رضا الجلالي ص 236), لكن الامام السجاد لم يفعل ! وهنا قد يسأل القارئ فيقول : لماذا لم يقم الامام السجاد بأعباء الثورة ومباركتها تلك الثورة المنتصرة التي أخذت بثارات أبيه الامام سيد الشهداء؟ وكيف يتخلى الامام السجاد عن هذه الفرصة لأعادة الامامة والخلافة الى ال بيت النبي (ص) لإقامة دولة الاسلام؟ سيأتينا الجواب في نهاية سيرة الائمة الاثني عشر , فرويداَ!
عاش الامام السجاد في موطنه في المدينة المنورة   يثقف اتباعه ويمحي الخبث والتحريف عن دين جده النبي محمد (ص),  وكان حاكم المدينة والجزيرة العربية آنذاك المدعو عبد الله بن الزبير الحاقد على آل محمد والظالم حقهم حتى أنه ( ابن الزبير) أبطل عبارة الصلاة على محمد وآل محمد من الصلاة بغضا وحسداً - وسيأتي ذكر ذلك في فصل ( اعداء النبي) - فصبر الامام السجاد على ذلك وعانى من تضييق ابن الزبير عليه , مثلما عانى من تضييق مروان وبنو أمية, ومع كل ذلك لم يقبل بقيادة الثورة التي عرضها عليه المختار الثقفي , فتأمل!




الإمام زين العابدين في عهد عبد الملك
بعد هلاك مروان وابن الزبير , كان عبد الملك بن مروان طاغية آخر يؤرقه وجود الامام السجاد علي بن الحسين, فكان يرسل الجواسيس والعيون لمراقبة الامام وأمر مرة  جلاوزته أن يأتوا اليه بالامام السجاد من المدينة الى دمشق  مقيدا بالحديد  :
عن الزهري قال  (شهدت علي بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام ، فأثقله حديداً ووكَّل به حُفَّاظاً في عِدَّة وجَمْع ، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لي فدخلت عليه وهو في قبة(هودج كالقفص)والأقياد في رجليه والغل في يديه ، فبكيت وقلت: وددتُ أني في مكانك وأنت سالم ! فقال لي: يازهري أوَتَظُنُّ هذا مما ترى عليَّ وفي عنقي مما يكربني؟ أما لو شئتُ ما كان ، وإنه إن بلغ بك وبأمثالك غمرٌ ليذكر عذاب الله ، ثم أخرج يده من الغل ورجليه من القيد ثم قال: يا زهري لا جُزْتُ معهم ذا منزلتين من المدينة(مكان في طريق الشام) ! قال: فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون به يطلبونه من المدينة فما وجدوه ! فكنت فيمن سألهم عنه فقال لي بعضهم: إنا نراه متبوعاً ( أي معه جني ! ) إنه لنازلٌ ونحن حوله لاننام نرصده ، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدهُ ! قال الزهري: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته فقال لي: إنه جاءني في يوم فَقَدَهُ الأعوان فدخل عليَّ فقال: ما أنا وأنت؟! فقلت: أقم عندي فقال: لا أحب ثم خرج ، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة .قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس علي بن الحسين حيث تظن، إنه مشغول بربه . (أي لايريد الثورة عليك واخذ الحكم كما تتصور) فقال: حبذا شغلٌ مثلُه، فنعم ما شغل به ! قال وكان الزهري إذا ذكر علي بن الحسين يبكي ويقول: زين العابدين!).( عن جواهر التاريخ ج4 للعلامة الكوراني ونقله عن تاريخ دمشق ج41 ص 372 ,حلية الأولياء ج3 ص 135، مناقب آل بني طالب ج3 ص 275 ، وغيرها .وكذلك تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص325) .
تأمل هذه الكرامات الربانية , تلك التي لايدركها الا العارفين, فهو يخرج يديه ورجليه من القيد ويغافل عسكر الخليفة , ثم تُطوى له الأرض حتى يدخل قصر الطاغية ويعنفه ثم يخرج . إن هذه الكرامة الربانية لاينالها إلا أصحاب المقامات وهل هناك أرفع مقاما من الامام السجاد ذلك الذي تربي في بيت النبوة ومهبط الرسالة , جده المرتضى علي وجدته فاطمة سيدة النساء ابنة خاتم الانبياء محمد (ص) , وأبيه الحسين وعمه الحسن سيدا شباب أهل الجنة. فلا غرابة أن تطوى له الأرض ولايناله الظالمون حتى ورود أجله.
لقد كان هم الطغاة أن تمحى كربلاء من ذاكرة الناس حتى يستمروا في تأسيس ملكهم على تحريف دين محمد وتشويهه وتقديمه للعالم كما يشتهون , فكان الامام السجاد  لايترك وصلة من زمن إلا وذكر استشهاد أبيه الحسين وذكر مناقبه وعلمه وفضله وبيان خروجه , لقد قضى هذا الرجل العظيم عمره يتذكر ويذكر الناس بوقعة كربلاء ويُروى أن مولى له سأله يوما وهو يرى دموعه وحزنه على كربلاء فقال له :
(يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل؟ فقال لي: ويحك إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبياً ابن نبي ، له اثنا عشر ابناً فغيَّبَ الله واحداً منهم ، فشابَ رأسه من الحزن واحدَوْدَبَ ظهره من الغمِّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيٌّ في دار الدنيا . وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي)!
( جواهر التاريخ ج3 للعلامة الكوراني ونقله عن اللهوف لابن طاووس ص 115, ينابيع المودة للقنذوزي ج3 ص 93 لواعج الاشجان ص 242, بحار الانوار للمجلسي ج45)
بعد استتباب الامر لعبد الملك بن مروان وقضاءه على الاضطرابات كما تقدم  , كان خصمه الاول هو الامام السجاد علي بن الحسين , وكتب والي العراق آنذاك وهو الحجاج بن يوسف الثقفي الى الخليفة عبد الملك يشير عليه بقتل الامام علي بن الحسين لتثبيت ملكه وكما يلي: ( إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل علي بن الحسين).
فكتب عبد الملك إليه: ( أما بعد: فجنبني دماء بني هاشم وأحقنها، فإني رأيت آل أبي سفيان لما أولعوا فيها لم يلبثوا أن أزال الله الملك عنهم ) ( الخرائج والجرائح للرواندي ج1 ص256).
كان البديل الذي استعمله عبد الملك عن اغتيال الامام السجاد هو مراقبته والتعتيم عليه فطوقوه بالجواسيس والعيون وهو يعيش في المدينة المنورة, و نجحت السلطة  الى حد ما في عزل الامام فتسنى لوعاظ السلاطين وكتبة البلاط أن ينشروا أرائهم ويستحدثون  ما يشاءون بمباركة السلطة الحاكمة . كان تجاهل الامام أحد أساليب السلطة فيروى أن هشام بن عبد الملك حج قبيل ولايته الخلافة ، فكان إذا أراد استلام الحجر زوحم عليه وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له ، فوجم لها هشام وقال: من هذا ؟ فما أعرفه ! فأنشأ الفرزدق يقول قصيدة الشهيرة في مدح الامام ننقل منها أول ابياتها 
يا سائلي أين حل الجود والكرم * عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده * صلى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه * لخر يلثم منه ما وطى القدم
هذا علي رسول الله والده * أمست بنور هداه تهتدي الامم
هذا الذي عمه الطيار جعفر وا * لمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة * وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
بعد قراءة القصيدة في مدح الامام قال هشام بن عبد الملك للفرزدق : ألا قلت فينا مثلها، فقال له الفرزدق : هات جدا كجده وأبا كأبيه واما كامه حتى اقول فيكم مثلها، فحبسه بعسفان بين مكةوالمدينة ,فجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان مما هجاه به قوله:
أتحبسني بين المدينة والتي * إليها قلوب الناس تهوى منيبها
تقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعلينا له حولاء باد عيوبها
فاخبر هشام بذلك فأطلقه وفي رواية ابي بكر العلاف انه اخرجه إلى البصرة. ( المناقب لابن شهر آشوب ج3 ص 307, ومثله في  سير أعلام النبلاء للذهبي ج4 ص 398). وقوله حولاء باد عيوبها يعني به هشام بن عبد الملك بن مروان فقد كان أحول العينين. وقد ذكر القصيدة بتمامها ابن شهرآشوب في كتابه مناقب آل بني طالب , وذكرها غيره كابن خلكان في وفيات الاعيان, وابن عساكر في تاريخ دمشق, والاصفهاني في الاغاني, والذهبي في تاريخه , وابن كثير في تاريخه , وسبط ابن الجوزي في تذكرته,  وغيرهم كثير.
ونقول إن هذه الهيبة لايطيقيها الظلمة, فبها يتقزمون ويفنون أمام من تعشقه الجماهير ,فلايجدوا سوى القضاء على أصحاب الهيبة والسؤدد كي يسودوا ويستديم ملكهم, ولنتذكر أن سب الامام علي بن أبي طالب على منابر بني أمية كان قائماً أيام الامام السجاد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب, فجد الامام السجاد كان يُذكر بالسوء والسباب على منابر الدولة فتأمل حال الامام وموقف الدولة منه!

استشهاد الامام
تجنب عبد الملك بن مروان اغتيال الامام لاسباب كثيرة منها قوله الذي تقدم ذكره للحجاج : ( أما بعد: فجنبني دماء بني هاشم وأحقنها، فإني رأيت آل أبي سفيان لما أولعوا فيها لم يلبثوا أن أزال الله الملك عنهم ), وهو قول حاذق فقد شاهد عبدالملك نهاية حكم معاوية ويزيد بعد ملحمة كربلاء, فتجنب الخوض في دماء آل النبي (ص) , ولكن بعد هلاك عبد الملك تولى ابنه السكير الوليد بن عبدالملك الحكم الذي لم يكن يتوانى عن فعل أي شئ في سبيل تثبيت حكمه ومن ذلك سبه للامام علي بن أبي طالب على المنبر حيث يقول
(صعد المنبر فقال: علي بن أبي طالب لُصٌّ ابنُ لُص ، صُب عليه شؤبوب عذاب !) ( جواهر التاريخ للكوراني ج3 ونقله عن البيان والتبيين للجاحظ, شرح النهج ج4 ص 58, النصائح الكافية لابن الصباغ ص105) فإذا كان الخليفة السكير هذا لايتوانى عن سب الامام علي بن أبي طالب فماذا سيكون موقفه من حفيده السجاد علي بن الحسين بن علي؟
قام الوليد بتصفية  من يعارض حكمه في سنة واحدة ومنهم عروة بن الزبير , وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وتوفي في تلك السنة ( سنة 95 هجرية) أيضا الامام السجاد علي بن الحسين من دون علة أو مرض مما يرجح أن موته لم يكن موتا طبيعيا. ذكرت مصادر تاريخية دلائل استشهاد الامام السجاد علي بن الحسين نذكر منها :
(نقل ابن شهاب الزهري أن الوليد قال له: لا راحة لي وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا )( نظريات الخليفتين للعلامة الطائي ج1 ص156, ونقله عن تاريخ دمشق لابن عساكر) , وقال صاحب البحار :(تسمى سنة الفقهاء لكثرة من مات من العلماء، وكان علي سيد الفقهاء مات في أولها وتتابع الناس بعده، سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، وعامة فقهاء المدينة، وقيل توفي عليه السلام يوم السبت ثامن عشر المحرم سنة خمس وسبعين بالمدينة، سمه الوليد بن عبد الملك بن مروان , وعمره عليه السلام تسعة وخمسون سنة وأربعة أشهر وأيام، وروي أن عمره سبعة وخمسون سنة مثل عمر أبيه)( بحار الانوار للمجلسي ج 46 ص 156, الاتحاف في حب الاشراف للشبراوي الشافعي ص 52 )
ونقول إن سنة الفقهاء وتعاقب موتهم في سنة واحدة دليل دامغ على مؤامرة الطاغية الوليد بن عبد الملك في اغتيال الامام.
روى الصدوق :(علي بن الحسين سيد العابدين (ع) سمه الوليد بن عبد الملك فقتله.)( الاعتقادات للصدوق ص98)
وقال ابن حجر 585: (توفي وعمره سبع وخمسون ، منها سنتان مع جده علي ، ثم عشر مع عمه الحسن ، ثم إحدى عشرة مع أبيه الحسين . وقيل سمه الوليد بن عبد الملك .)( الصواعق المحرقة لابن حجر ج2 ص 585) خلف الامام السجاد تراثا كبيرا من العلم ازدحمت به كتب الفقه والحديث , ومن ذلك أدعيته الخالدة المدونة في كتاب الصحيفة السجادية .
خلف الامام في منصب الامامة ابنه الامام محمد الباقر.



5-الامام الخامس :  الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . وهو أخو زيد بن علي بن الحسين الذي استشهد سنة 121 هجرية في عهد الخليفة الاحول هشام بن عبد الملك بن مروان , وقد تقدم ذكر زيد واستشهاده. شهد الامام الباقر فاجعة كربلاء وله من العمر أربع أعوام حيث يقول:
( قُتل جدي الحسين ولي اربع سنين, وإني لأذكر مقتله , ومانالنا في ذلك الوقت ) ( تاريخ اليعقوبي ج2 ص 320). الامام الباقر حفيد الحسين سيد الشهداء وكذلك حفيد للأمام الحسن الزكي من جهة الأم فأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب. لُقب بالباقر من جده النبي محمد (ص) , فقد روى الصحابي جابر الانصاري أن النبي (ص) قال له : ( يوشك أن تبقى حتى ترى ولدا من ولد الحسين , يقال له محمد يبقر العلم بقراً فإذا رأيته فأقرأه مني السلام) ( كشف الغمة ج2 للأربلي المتوفى سنة 630 هجرية, ومثله في تاريخ اليعقوبي ج2 ص320). وكان جابر من المعمرين فعاش حتى شاهد الامام الباقر ثم توفي بعد ذلك بقليل. في زمن الامام الباقر دخلت الى العرب علوم جديدة من بلاد الروم والفرس كالفلسفة والمنطق وغيرها واختلف الناس في مذاهبهم وفي تفسيراتهم للقرآن الكريم وفشت الاحاديث الموضوعة على النبي الكريم , فكان الامام الباقر لها  فبقر العلم بقراً ونشره رغماُ عن أنوف خلفاء بني أمية وسلطانهم الغاشم. قال ابن منظور واللفظ له ( لقب بالباقر لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسع فيه ) ( لسان العرب لابن منظور ج4 ص 74, ومثله في الصواعق المحرقة لابن حجر ص 210 , ص 301, البداية والنهاية لابن كثير ج9 ص339, وعن موسوعة الملل والنحل للعلامة السبحاني ج7 ص 473). جمع العلامة الطبرسي مناظرات الامام الباقر مع معاصريه في كتابه الفذ ( الاحتجاج)  ج2 ص 321 , وفي تلك المناظرات يبدو علماء عصره ومراجعه كأقزام أمام علم الامام الباقر . روى التاريخ ( عن عطاء المكي قال : مارأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين, ولقد رأيت الحكم بن عيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يد معلمه, وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي (الباقر) شيئا قال : حدثني وصي الاوصياء ووارث علم الانبياء محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام) ( كشف الغمة ج2 ص 340 للأربيلي).
روى الزهري قال : ( ج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه ومحمد ( الباقر) علي بن الحسين في المسجد. فقال له سالم : يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين , قال (هشام) : المفتون به أهل العراق؟ قال نعم ) ( كشف الغمة للأربيلي  ج2 ص 338) , تأمل قول الخليفة هشام : ( المفتون به أهل العراق) , فهل يعقل أن يترك الطاغية رجلا  يتبعه الناس ويعشقونه؟
كان عليه السلام يقول :(  بلية الناس علينا عظيمة , إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا , وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا) وقال كذلك : ( ماينقم الناس منا أهل بيت الرحمة , وشجرة النبوة ومعدن الحكمة , وموضع الملائكة ومهبط الوحي) ( الارشاد للمفيد ص 284), وهو وصف لحال جميع الائمة , فهم ورثة علوم النبوة لايهتدي الناس بغيرهم مهما حاولوا وبحثوا ,وفي نفس الوقت لايستجيب الناس لدعوتهم بل يركضون خلف الامراء والسلاطين .
إن سمو شخصية الامام الباقر وهيبته وشعبيته بين الناس لايقبل بها كل طاغية فاجر, فلايهدأ بال الملوك والخلفاء بوجود أمام زاهد في الدنيا تعشقه جماهير الناس  وتتحرك رهن أشارته, فكانت ختام حياة هذا الرجل العظيم  عام 114 هجرية .اتفقت المصادر على أنه لم يكمل من العمر سبع وخمسون 57 عاما , ولم يشتك من علة أو ضعف مما يبعث التساؤلات حول سبب وفاته , وهل هناك سوى السم سلاح الموت الصامت الذي برع فيه الخلفاء والسلاطين! رحل الامام في عهد الطاغية  هشام بن عبد الملك , ولم يلبث حكم بني أمية أن أنهار بعد سبعة عشر عاماً من استشهاد الامام الباقر. خلفه في منصب الامامة الربانية ولده الامام جعفر الصادق.

6- الإمام السادس , الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب :
   ( كان جعفر الصادق  من بين اخوته ، خليفة أبيه ، ووصيّه والقائم بالامامة من بعده ، برزعلى جماعة بالفضل ، وكان أنبههم ذكراً ، وأجلّهم قدراً ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في البلدان ، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث. وروى عنه جماعة. من أعيان الأمّة مثل يحيى بن سعيد ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وأبو عيينة ، وأبو حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم) ( موسوعة الملل والنحل للعلامة السبحاني ج6 ص 480, ونقله عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص222) أخذ أئمة المذاهب الاسلامية ورجال الفقه علمهم عن هذا الامام الصادق وإليه ونسبة الى أسمه  عزا الناس  تسمية الشيعة الامامية بالجعفرية . ذكر العلامة الكوراني مقام الامام جعفر الصادق عند أئمة الفقه فنقل عن بعض العلماء أقوالهم وكما يلي :
  ( قال ابن حجر ( ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان... روى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد ، وابن جريح ، ومالك ، والسفيانين ، وأبي حنيفة ، وشعبة ، وأيوب) ( الصواعق المحرقة لابن حجر ) .
   قال الشيخ محمد أبو زهرة: (لا نستطيع في هذه العجالة أن نخوض في فقه الإمام جعفر ، فإنّ أُستاذ مالك وأبي حنيفة وسفيان بن عيينة ، لا يمكن أن يدرس فقهه في مثل هذه الإلمامة) . (موسوعة أصحاب الفقهاء ج2 ص30).
   قال ابن أبي الحديد: (أما أصحاب أبي حنيفة فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فهو تلميذ تلميذ أبي حنيفة ، وأما ابن حنبل فهو تلميذ الشافعي . وأبو حنيفة قرأ على جعفر الصادق وعلمه ينتهي إلى علم جده علي).( شرح النهج لابن أبي الحديد)
 قال الإمام مالك بن أنس: (ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد ، فضلاً وعلماً وورعاً وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً ، وإما قائماً ، وإما ذاكراً . وكان من عظماء البلاد ، وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم ، وكان كثير الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد ، فإذا قال: قال رسول الله ، اخْضَرَّ مرة وأصفر أخرى حتى لينكره من لا يعرفه ). ( النص عن جواهر التاريخ ج5 للكوراني ونقله عن مناقب آل أبي طالب ج3 ص 396 لابن شهر آشوب). ذكر العلامة الطبرسي مناظرات الصادق مع مختلف الملل في كتابه الاحتجاج وفي تلك المناظرات تتجلى حكمه وعلومه الربانية.
روى عن الامام الصادق مئات الفقهاء حتى قال الحسن بن علي الوشاء (أدركت في هذا المسجد ( مسجد الكوفة ) تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد) ( موسوعة الملل للسبحاني ج7 ص 482, ونقله عن الرجال للنجاشي ) ودون العلامة السبحاني فقال (ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف آرائهم ومقالاتهم فكانوا أربعة آلاف رجل  وهذه فضيلة رابية لم تكتب لأحد من الأئمّة قبله ولا بعده.)( موسوعة السبحاني ج7, ومصادره : الارشاد للشيخ المفيد ص270, ومناقب آل بني طالب ج4 ص 247 لابن شهر آشوب) .
ثم يستأنف السبحاني فيذكر أن انّ صاحب كتاب البخاري نقل عن  مروان بن الحكم وعن عمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الامام الصادق! وقد مرت بنا سيرة مروان بن الحكم ومواقفه من الدين, أما عمران بن حطان فكان يثني على قاتل الامام علي, ومثله حريز الرحبي الذي كان يجاهر بسب الامام علي . وأقول أن البخاري الذي ألف كتابه (صحيح البخاري) في عهد الخليفة العباسي المتوكل كما تقدم بنا, حريٌ به أن لايذكر أحاديث الامام الصادق, فالخليفة المتوكل المبغض للأمام علي أختار البخاري ليؤلف كتاب الحديث المشهور هذا, ولايقع اختياره إلا على من يشاركه النصب لآل بيت النبي الكريم.

الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المتسمي بالمنصور ينشأ مرجعيات فقهية لعزل مرجعية الامام الصادق!
للقضاء على شعبية الامام الصادق وإبعاد جماهير الناس عنه, أنشأ الخليفة المنصور مرجعيات فقهية جديدة في عهده, ومن ذلك أنه أمر  الفقيه مالك بن أنس بكتابة كتاب فقه يكون مرجعاً للناس فكتب مالك كتابه (الموطأ) الذي بين أيدينا اليوم , وأمر الخليفة الناس بأتباع ما كتبه مالك بن أنس والتخلي عن باقي الفقهاء! ذكرابن قتيبة  قول الخليفة المنصور لمالك بن أنس : (يا أبا عبدالله ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتبا ، وتجنب شدائد عبدالله بن عمر ورخص عبدالله بن عباس وشواذ عبدالله بن مسعود ، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة , لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها,فقلت له : أصلح الله الأمير إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في عملهم رأينا.. فقال أبو جعفر المنصور : يحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط ، فتعجل بذلك وضعها فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله) ( الامامة والسياسة للدينوري ج2 ص202, أعلام النبلاء للذهبي ج8 ص 111) . تأمل أن الكتاب صدر بمرسوم السلطة والمخالف  يعاقب بالموت والتعذيب! وذكر العلامة الكوراني :( أن المنصور شرط على مالك بن أنس أن لايروي عن الامام علي , ولذلك لاتجد في كتاب الموطأ لمالك أي رواية عن علي بن أبي طالب , راجع مستدرك الوسائل ج1 ص20)(  الامام الكاظم سيد بغداد ص 76 للكوراني ). فعل الخليفة عين الشئ مع أبي حنيفة النعمان فقربه وفتح له باب الافتاء والفقه فنشأ المذهب الحنفي بمباركة الخليفة أبوجعفر المنصور , وطلب الخليفة مرة من أبي حنيفة أن يحضر مسائل فقهية معقدة ويعرضها على الامام الصادق آملاً أن يحتار الصادق في الاجابة على تلك الاسئلة لتتزعزع ثقة الناس فيه, فقال له
(يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهئ له مسائلك الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر ، فسلمت عليه فأومأ إلي فجلست ، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة فقال: نعم أعرفه . ثم التفت إليَّ فقال: ألق على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت ألقي عليه ويجيبني فيقول: أنتم تقولون وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا ، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً ، حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخل منها بشئ ! ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا: أعلم الناس ، أعلمهم باختلاف الناس). ( النص عن جواهر التاريخ ج5 للعلامة الكوراني , وعن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج3 ص 378, وتهذيب الكمال للمزي ج5 ص 79,سير أعلام النبلاء للذهبي ج6 ص258)




استشهاد الامام
تفادى الامام جعفر الصادق الصدام مع خلفاء الدولة وكان ينجو من كيدهم  في كل مرة ببركة دعاءه , ولكن لكل أجل كتاب, فعاش الامام حتى عهد الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المنصور الذي لم يعد يطيق وجود الامام الصادق ووجود أتباعه ومحبيه, وقد تقدم ذكر أفعال الخليفة في العلويين وبغضه لهم فلم يراع حرمة دم آل بيت النبي الكريم (ص), ولم يكن الامام جعفر الصادق سوى أمامهم ومرجعهم, فيالها من غصة في حلق الطاغية لم يستطع الخلاص منها إلا بقتل الامام.
 ذكر العلامة ابن طاووس أن الخليفة العباسي أبوجعفر استدعى الامام الصادق إليه تسعة مرات وفي كل مرة كان ينوي قتله لكن الامام كان  ينجو ببركة دعاءه-ولم نأت بروايات استدعاء الامام ومحاولات الخليفة لقتله للاختصار -يروي ابن طاووس عن صديق الخليفة المنصور وصاحب سره محمد بن عبد الله الاسكندري قوله
 (: دخلت على المنصور فرأيته مغتمّاً، فقلت له: ما هذه الفكرة؟
فقال ( الخليفة): يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة ويزيدون  وبقي سيّدهم وإمامهم.
فقلت: من ذلك؟
فقال: جعفر بن محمد الصادق.
وحاول محمد أن يصرفه عنه، فقال له: إنه رجل أنحلته العبادة، واشتغل بالله عن طلب الملاك والخلافة. ولم يرتض المنصور مقالته فردّ عليه: يا محمد قد علمتُ أنك تقول به، وبإمامته ولكن الملك عقيم)( مهج الدعوات ص 247 لابن طاووس )
وأخيرا  كانت خطة الموت الصامتة بالسم , فإن كان الامام  قد نجا من محاولات أغتيال عديدة قبل ذلك  ليكمل نشر علوم آل محمد وليهيأ الامام من بعده , فأن ساعة رحيله كانت قد دنت ولكل أجل كتاب,  فقضى عليه السلام شهيداً بالسم. وللتضليل على الخليفة وجلاوزته وحماية للأمام من بعده وهو ابنه الكاظم , أدخل الامام الصادق خمسة أشخاص في وصيته وهم محمد بن سليمان وعبدالله وولده الامام موسى الكاظم وزوجته حميدة ,وكانت المفاجأة في الشخص الخامس حيث وضع الامام اسم الخليفة نفسه أبوجعفر المنصور, فتأمل ! وقد كتب المنصور لعامله في يثرب بقتل وصي الامام كذلك فكتب إليه الوالي : إنه أوصى الى خمسة , وانت ايها الخليفة أحدهم! فأسقط في يد الخليفة ولم يدر مايفعل. ( بتصرف عن الكافي ج1 ص 310 للكليني) . عذراً فلايمكن حصر في سطور قليلة سيرة هذا الرجل العظيم, فالروايات في كراماته الربانية ومناظراته مع مختلف الملل والنحل ومواقفه من السلطة وتعامله معها وفتاويه وعلومه ترغم كل جاحد الى الأيمان بأن الصادق أمام وعَلم يتقزم عنده العلماء وينقمئ في حضرته المتكبرون والجبابرة.

7- الإمام السابع: الكاظم موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : سابع أئمّة أهل البيت . ولد بالأبواء بين مكة والمدينة  سنة 128 واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام 183هجرية ,ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش, والمشهورة في أيامنا هذه بأسم مدينة الكاظمية. يعرف بالعبد الصالح ، وبالكاظم ، والصابر ، والأمين.
بعد أغتيال الامام الصادق ع , طغا الخليفة أبوجعفر المنصور في ظلمه لأتباع الائمة وشحن المدينة المنورة ومكة والكوفة وباقي المدن بالعيون والجواسيس, ولم يمهل الناس في ظلمه فكان القتل والحبس هو جزاء الولاء لآل بيت النبي (ص) ,ولم يتهاون جلازوة الخليفة في ذلك وقد تقدم ذكر خزانة الرؤوس تلك التي أمتلأت برؤوس وجماجم العلويين من الشيوخ والاطفال. كانت فتاوى الامام موسى الكاظم ( ابن الامام جعفر الصادق) تُنشر بالسر والكتمان خوفا من تسلط الطاغية وجواسيسه , حتى استعمل تلامذة الامام موسى الكاظم ألقاباً سرية للأمام الكاظم فعندما كانوا يحدثون عنه وينشرون أحاديثه كانوا يقولون قال العبد الصالح أو قال العالم , وكان الامام نفسه يوصي أتباعه بالحذر من عيون السلطة فكان يقول لتلامذته عندما ينشرون أحاديثه ومنهم هشام بن سالم( من آنست منهم رشدا فألق عليهم وخذ عليهم بالكتمان, فإن أذاعوا فهو الذبح وأشار بيده الى حلقه) ( الارشاد للمفيد ج2 ص 221, ومثله في بحار الانوار ج48 ص50, كشف الغمة للاردبيلي ج3 ص27 ) , وقال كذلك ( سل تخبر ولا تذع , فإذا اذعت فهو الذبح) ( كشف الغمة للاردبيلي ج3 , سيرة الكاظم ع) , وهذا الحديث يبين لنا سببا من أسباب غموض تفسير حديث الائمة الاثنا عشر الذي مر بنا, فالسلطة الغاشمة بجبروتها نجحت في تكتيم  نشر الحديث المذكور . أن إمامة موسى الكاظم للناس لم تكن علنية بل كانت سرية لأهل الخواص والمخلصين من مذهب آل البيت, وتقدمت بنا وصية الامام الصادق تلك التي جعل فيها خمسة أحدهم الخليفة المنصور احتياطا على حياة أبنه الأمام الامام الكاظم . هذا الحصار الفكري للأمام سهل انتشار التيارات الفاسدة كفرقة المرجئة التي نادت أن المهم هو قلب الانسان وأيمانه بالله أما الافعال والجرائم فلها يوم القيامة وهو يوم الحساب وليس هذه الدنيا بيوم حساب , فعطلوا الحدود وأتخذوا موقف المتفرج على الاحداث فلم ينصروا مظلوما ولم يدينوا ظالما بحجة أن الحساب يوم القيامة ولاعقوبة أو حساب في الحياة الدنيا , وكفرقة  القدرية التي تكل الامور الى الاقدار وتسلب الانسان حريته, فكانوا يقولون أن المجرم برئ من جرمه لأن القدر أجبره على جريمته وبذلك سوغوا للظلمة أفعالهم وقالوا أن قدرهم أن يكونوا ظلمة فمن غير المعقول الخروج عليهم ومحاربتهم , وغير ذلك من فرق أنتشرت في ذلك المناخ الخالي من تعاليم الدين الاصيلة ,ولم تكن تلك التيارات الفاسدة تقف بوجه السلطة ولاتنازعها الحكم فتركت السلطة لها فسحة الحرية مما زاد في ضيعة الناس وضلالهم.
بعد هلاك المنصور تسلم الحكم ابنه محمد وتلقب بلقب المهدي ,وقد تقدم ذكر أن العباسيين أنتحلوا ألقاب الامام المهدي المنتظر الذي بشر به النبي محمد (ص) , فتسموا بألقابه كالمنصور والرشيد والمهدي والهادي وغيرها في سبيل تضليل جماهير الناس عن المهدي المنتظر نفسه , وكان أتخاذ لبس السواد عند العباسيين لذات السبب كما مر بنا حيث تحايل العباسيون على الحديث النبوي الذي يبشر بخروج أقوام تلبس السواد تأتي من خراسان تنصر المهدي المنتظر وتقاتل معه, فقاموا بلبس السواد وانتحلوا ألقاب المهدي المنتظر حتى تنطبق بشارات النبي (ص) عليهم, عرَّف الامام جعفر الصادق للناس أن زمن خروج المهدي ليس ذلك الزمن وقد تقدم ذكره , لكن العباسيين حرقوا المراحل وطمسوا الحقائق وأغتنموا فرصة الملك وانتحلوا لأنفسهم الالقاب.
كان عهد المهدي العباسي القصير متنفسا للعلويين مقارنة بعهد أبيه الظالم أبي جعفر المنصور, يروي اليعقوبي أنه عند تسلم المهدي العباسي للحكم أطلق المساجين ورفع الظلم عن الناس: (ثم أمر ( المهدي العباسي) بإخراج من في المحابس من الطالبيين وغيرهم من سائر الناس فأطلقهم وأمر لهم بجوائز وصلات وأرزاق  ,ثم أطلق سائر الناس ولم يطلق أحداً إلا وكساه ووصله على قدره) ( تاريخ اليعقوبي ج1 ص 270 طبعة النت ) . ولكن مع ذلك فأن التاريخ يحدثنا أن الامام موسى الكاظم كان سجيناً عند الخليفة الثالث الملقب بالمهدي , فتأمل إحتياط السلطة العباسية وخوفها من شعبية الائمة!
(عن أبو الأشعث الكندي، قال: حدثني بن عبد الله، قال: قال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة؛ فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم ثيابه! قال: فقرأ هذه الآية:
(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) ، قال: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بن جعفر (الكاظم)، وكان محبوسا عندي! قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلاموسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية : (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم .) فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.) ( تاريخ الطبري ج4 ص 484, ذكر أيام المهدي العباسي بن أبي جعفر, ومثله في  مناقب آل بني طالب ج3 ص418, صفوة الصفوة ج2 ص 184 ومابعدها لابن الجوزي المتوفي سنة 597هجرية, وفيات الاعيان ج5 ص 308 ومابعدها  لابن خلكان المتوفي سنة 608 هجرية ).
هلك الخليفة المهدي وتعددت أسباب موته فقيل أنه جارية من جواريه بعثت الى ضرة من ضراتها بإناء فيه سم لقتلها فأكل المهدي من ذاك الاناء فمات , وقيل أنه سقط من  فرسه وهو يتصيد فمات وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ( باختصارعن تاريخ اليعقوبي ج1 ص 270 ,الكامل لابن الاثير ج4 , حوادث سنة 169)
كان الخليفة المهدي ماجنا كغيره من الخلفاء, حتى قال فيه الشاعر بشار بن برد :
خليفة يزني بعماته يلعب بالدبوقِ والصولجان
أبدلنا الله به غيرَه ودس موسى في حر الخيزران
 ( الابيات عن الكامل لابن الاثير ج4 , حوادث سنة 169 ومثله في معاهد التنصيص على شواهد التخصيص للعباسي ج1 ص 100 طبعة النت)
تولى الحكم بعد المهدي ابنه موسى المتلقب بلقب الهادي ظلما وعدواناً , كان الخليفة الرابع موسى من ظلمة آل بيت النبي الكريم(ص) وفي عهده وقعت مذبحة فخ التي تقدم ذكرها, لم يهنأ هذا الطاغية العباسي بحكمه , فبعد مذبحة فخ مات مسموماً بتدبير امه لينال الخلافة أخيه هارون المتلقب بالرشيد ( راجع هلاك الخليفة وموته مسموما في تاريخ الطبري وابن الاثير وغيره), تأمل الفوضى في الحكم في دولة المسلمين, فليس هناك نظاما للحكم  كما يتشدق المتشدقون, إنما ينز الرجل على الخلافة نزاً  ولا يخرج منها الا بالموت مقتولا أو مسموما لينال الخلافة من بعده من ينز على الخلافة كذلك ويتربع على عرشها.




بين الامام الكاظم وهارون العباسي
ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكاً ـ وهو يمتنع عليه ـ ، فلمّا ألحّ عليه قال : ما آخذها إلاّ بحدودها قال : وما حدودها ؟ قال : الحد الأوّل عدن ـ فتغيّر وجه الرشيد ـ قال : والحد الثاني ؟ قال : بسمرقند ـ فأربد وجهه ـ قال : والحد الثالث ؟ قال : أفريقيا قال : والحد الرابع ؟ قال : سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينيا فقال هارون : فلم يبق لنا شيء فتحوّل من مجلسي فقال موسى : قد أعلمتك انّي إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله واستكفى أمره )( الملل والنحل للعلامة السبحاني ج7 ص 487 ونقله عن ربيع الابرار للزمشخري) , وفدك هي قطعة الارض التي ورثها النبي (ص) لابنته الزهراء فلما اغتصب الخليفة الاول ابوبكر الخلافة اغتصب فدكا كذلك وادعى أنها ملك للدولة وقد تقدم ذكر فدك في فصل السقيفة . تأمل أن الامام يُذكر الخليفة هارون بأن فدك هي رمز للدولة كلها, فالذي أغتصب الخلافة بعد وفاة النبي واغتصب فدكا  أغتصب الدولة كذلك وعلى ذلك سار باقي الخلفاء والسلاطين .
روي انّ الرشيد سأل الامام الكاظم  فقال له : كيف قلتم نحن ذرّية رسول اللّه , وأنتم بنو علي وانّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لاُمّه ؟ فقال الكاظم  :  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين, وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ... ) وليس لعيسى أب إنّما اُلحق بذريّة الأنبياء من قبل اُمّه وكذلك اُلحقنا بذريّة النبي من قبل اُمّنا فاطمة الزهراء ، وزيادة اُخرى يا أميرالمؤمنين : قال اللّه عزّوجلّ : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونساءنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل...) ولم يدع النبي (ص) عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء ( الملل للسبحاني ج7 ص 489 , ونقله عن الفصول المهمة 238 ، والآيتان من سورتي الأنعام 84 وآل عمران 61.). تأمل استدلال الامام اللطيف وتأمل ذكره مباهلة النبي لوفد النصارى وقد تقدم ذكر منقبة المباهلة في فصل (الامام علي ) .

من كرامات الامام الكاظم
للأمام الكاظم كرامات كثيرة لايسعنا ذكرها في هذه العجالة ,ذُكرت في كتب التاريخ وقد جمع بعضها العلامة المعاصر الكوراني في كتابه الموسوم ( الكاظم سيد بغداد) فليراجعها طلاب الحقيقة ليروا عظمة هذا الامام العالم العابد , ومن تلك الكرامات خروجه من الحبس رغم القيود والأبواب والحراس وعودته الى الحبس حيث يشاء, ولم يكن عليه السلام يدعو ربه كي يفرج عنه سجنه لمعرفته بأن قدره هو الموت بالسم في السجن, فكان راضيا بقدر الله تعالى مع علمه بذلك وتلك مناصب يدركها العارفون.
استشهاد الامام
كان عهد الخليفة العباسي الرشيد من عهود الظلم والحيف على آل بيت النبي الكريم(ص), ولم يهدأ بال الخليفة هارون إلا بقتل الامام موسى بن جعفر الكاظم. روى التاريخ أن الخليفة بنفسه ذهب الى المدينة المنورة وأخذ الامام الكاظم من المسجد فقيده جلاوزة الخليفة وأخذوه الى البصرة حيث سُجن هناك لأكثر من عام,  ثم أخذوه الى بغداد ليكمل ماتبقى من أيامه في سجن الخليفة هارون ليقضي مسموما في سجن الخليفة . ذكر المسعودي
( قُبض موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد مسموماً لخمسة عشرة سنة خلت من ملك الرشيد سنة ست وثمانين ومائة، وهو ابن اربع وخمسين سنة) ( مروج الذهب ج3 ص355للمسعودي المتوفى سنة 346 هجرية ). وليتدارك الخليفة جريمته الشنعاء اصطنع مسرحية لتبرئته من جريمة القتل تلك ,فأمر رجال حاشيته بالتطلع في وجه الامام الشهيد حيث روى اليعقوبي واللفظ له  (وكان ( الكاظم) ببغداد في حبس الرشيد قبل السندي بن شاهك، فأحضر مسروراً الخادم وأحضر القواد والكتاب والهاشميين والقضاة ومن حضر ببغداد من الطالبيين، ثم كشف عن وجهه فقال لهم: اتعرفون هذا؟ قالوا نعرفه حق معرفته، هذا موسى بن جعفر، فقال هارون: أترون أن به اثراً وما يدل على اغتيال؟ قالوا: لا ثم غسل وكفن واخرج ودفن في مقابر قريش في الجانب الغربي. وكان موسى بن جعفر من أشد الناس عبادة ) ( تاريخ اليعقوبي ص 414, ذكر أيام الرشيد, ومثله في مقاتل الطالبيين للأصفهاني, تاريخ بغداد ج13 ص 27 للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هجرية, الكامل لابن الاثير , ج5 ص318 ثم دخلت سنة 183 هجرية) , ومقابر قريش هي مايعرف في عهدنا بمدينة الكاظمية في بغداد. وروى ابن الاثير واللفظ له أن الامام   (بعث إلى الرشيد رسالة أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا أن ينقضي عنك معه يوم من الرخاء حتى ينقضيا جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)( الكامل لابن الاثير ج5 ص320 , تاريخ بغداد ج13ص32، سير أعلام النبلاء  ج6ص273 )
لقد تم للطاغية ما أراد ,ولكن !عاش الامام خالدا في قلوب أتباعه ومحبيه إلى يومنا هذا حيث تأتي الجموع المليونية لزيارة مرقده الشريف , وظل الخليفة الرشيد لايُذكر إلا وتُذكر أيام مجونه وبذخه, وسيأتينا ذكر عن الخليفة الرشيد ووضاعة اسرته وغيره من خلفاء بني العباس  في فصل أعداء النبي (ص), لنرى أنه لايعادي النبي الكريم وآله سوى مجامع الرذائل من أصحاب الاصل الوضيع.

8- الامام الثامن : الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:  قام الامام الرضا بالامامة من بعد استشهاد أبيه الامام موسى الكاظم.وكان الامام الكاظم قد صرح بأمامته منذ طفولته حيث يقول لأحد شيعته وهو المفضل بن عمر ( يا مفضل هو مني بمنزلتي من أبي ,ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم , قلت ( قال المفضل) : هو صاحب الأمر من بعدك ؟ قال : نعم ) ( عيون أخبار الرضا ج1 ص 32 للعلامة الصدوق المتوفى 381 هجرية).
  ولد الامام الرضا في عهد المنصور العباسي واستشهد بالسم في عهد المأمون العباسي وله من العمر تسع وأربعون سنة , ودُفن في طوس وهي مايعرف اليوم بمدينة مشهد بأيران.
بعد استشهاد الامام الكاظم على يد الخليفة الماجن هارون الرشيد, حاول الرشيد كذلك التخلص من ابنه الامام الرضا, وكان قد أمر حاجبه أن يُلقي بالامام  في حديقة السباع التي كان يملكها , ونجا الامام الرضا ببركة دعاءه ( بتصرف عن مهج الدعوات لابن طاووس). عرف الرضا بأن مماته لن يكون على يد الطاغية هارون بل على يد إبنه الخليفة المأمون, فقد روى صفوان بن يحيى : (لما مضى أبو ابراهيم ـ يعني به (الإمام الكاظم )ـ وتكلم ابو الحسن (يعني به الامام الرضا) خفنا عليه، فقيل له : انك قد أظهرت أمراً عظيماً، وأنا نخاف عليك هذا الطاغية ـ يعني هارون ـ فقال الامام الرضا : ليجهد جهده فلا سبيل له عليّ) ( عيون أخبار الرضا ج2 ص 226 للصدوق) وحقا كان , فمات الخليفة الرشيد وعاش  الرضا ليعاصر خلافة المأمون ويموت بالسم في عهده , فقد أمر الخليفة المأمون بإحضار الامام الرضا إليه في خراسان وعرف الامام أن مماته سيكون هناك وكما يلي :
روى السجستاني : (لما جاء البريد باشخاص الإمام الرضا الى خراسان كنت انا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله (ص)، فودعه مراراً كل ذلك يرجع الى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدمت اليه، وسلمت عليه، فيرد السلام، وهنأته، فقال : ذرني فإني اخرج من جوار جدي ، فأموت في غربة، واُدفن في جنب هارون، قال : فخرجت متبعاً طريقه، حتى وافى خراسان فاقام فيها وقتاً ثم دفن بجنب هارون)( الاتحاف بحب الاشراف ص 59 للشبراوي) , وفعلاً تحقق ذلك فاستشهد في الغربة ودفن قريبا من قبر هارون المتلقب بالرشيد.
تقدم ذكر ثورة أبي السرايا وكيف آلت الامور في عهد الخليفة الماجن الأمين بن هارون الرشيد , لقد كادت تلك الثورة أن تطيح بخلافة بني العباس في عهد الخليفة الأمين. ثم توالت الاحداث حتى استطاع المأمون وهو أخو الخليفة الامين بن هارون الرشيد من قتل أخيه الخليفة الامين , ليتربع على عرش الخلافة وهي حالة ليست بغريبة في  اسلوب الحكم في دولة الخلافة المحرفة ,فالذي ينجح في اغتصاب الخلافة يكون الخليفة . ومن كرامات الامام أنه توقع مقتل الخليفة الأمين على يد أخيه المأمون فقد روى الحسن بن بشار فقال : (قال الرضا (ع) : ان عبدالله ـ يعني المأمون، يقتل محمداً يعني الامين ـ فقلت له : عبدالله بن هارون يقتل محمد بن هارون، قال: نعم، عبدالله الذي بخراسان يقتل محمد بن زبيدة الذي هو ببغداد .. وكان يتمثل بهذا البيت : وانّ الضغن بعد الضغن يفشوعليك، ويخرج الداء الدفينا) ( مناقب آل بني طالب ج4 ص363), وتحقق ذلك حيث قتل المأمون أخيه الأمين.
تظاهر الخليفة المأمون بالتشيع وكان ذلك أنتقاما للعباسيين الذين وقفوا مع أخيه الأمين ضده, و فتح المأمون مجالس الحوار والمناظرات لاظهار التشيع والدعوة لآل بيت النبي (ص)
 (كان المأمون يعقد مجالس النظر ، ويجمع المخالفين لأهل البيت، ويكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وتفضيله على جميع الصحابة ، تقرباً إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا. وكان الرضا يقول لأصحابه الذين يثق بهم: لا تغتروا منه بقوله ، فما يقتلني والله غيره ، ولكنه لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله ).( عيون أخبار الرضا ج2 ص 199للصدوق), تأمل معرفة الامام الرضا بغاية المأمون!
كان للتظاهر بالتشيع مأربا آخر عند المأمون فبه استطاع امتصاص نقمة الناس على الدولة وأخمد الثورات حتى وصل الامر عنده بأن أدلى للخلافة للأمام الرضا و أجبره على قبول ولاية العهد من بعده , وبهذه الحيلة الماكرة هدأ الناس وظنوا أن الخلافة من بعد المأمون ستفضي الى آل بيت النبي (ص) , وقيل للأمام: ( يا ابن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد ؟ فقال : ما حمل جدي أمير المؤمنين  على الدخول في الشورى !) (عيون أخبار الرضا ج2 ص141 للصدوق).
وهو استدلال لطيف على استمرار مؤامرة المسلمين على النبي وآله ,فكما نَزَّل المسلمين مقام أمير المؤمنين علي وقرنوه بجماعة الشورى وهو فوقهم في العلم والدين, فأن فعل المأمون كان كذلك حيث أجبر الامام الرضا على القبول بولاية العهد من بعده, فصار المأمون الوضيع ارفع مقاما من الامام ولوكان الخليفة المأمون مخلصاً في سعيه لإدلاء الخلافة للأمام الرضا لفعلها وهو حي بأن يتنازل عنها للأمام  ولكن الملك عقيم , ولم تكن ولاية العهد سوى حيلة لامتصاص نقمة الناس وتهدئة الثورات , وقد أدرك الامام مآل تلك الحيلة وعرف غاية المأمون , ولكل أجل كتاب.
بتظاهر المأمون  في تشيعه لآل بيت النبي (ص) فأنه فسح المجال للمناظرات في عهده, فبزغ نور آل النبي (ص) في الامام الرضا, ورأى العامة من الناس قدرة الامام اللامتناهية في أفحام خصوم الدين من الفرق المختلفة, وكان من معجزات علم الأمام هي اشتهاره بتكلمه بجميع اللغات, فكان يكلم كل طائفة بلغتهم وكأنه أحدهم !وفي ذلك يقول الامام لأبي الصلت :
 (يا أبا الصلت أنا حجة الله على خلقه، وما كان الله ليتخذ حجة على قوم، وهو لا يعرف لغاتهم. أوَما بلغك قول امير المؤمنين علي (ع): اوتينا فصل الخطاب، وهل هو إلاّ معرفته اللغات) ( مناقب آل بني طالب لابن شهر آشوب ج4 ص362), ونقول ان كرامة التكلم بألسن الناس المختلفة نالها جميع الائمة, ولكن أشتهار الامام الرضا بذلك أنما أتى من فسح المجال له في عهد المأمون فعرف الناس تلك الخصلة لما شاهدوه وهو يناظر الطوائف المختلفة.
كان للرضا عليه السلام مناظرات مع أصناف الفرق في عهده كالزنادقة والمجوس وباقي الاديان والمذاهب ,أظهر في تلك المناظرات علمه الرباني فأفحم الخصوم وأزال التحريفات عند دين جده المصطفى (ص), ودونت تلك المناظرات في الكتب المشهورة ككتاب الاحتجاج للطبرسي,  وكتاب عيون أخبار الرضا للعلامة الصدوق وغيرها, وفيما يلي مثل على ذلك
(دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا  فقال : روينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى (ع) الكلام ولمحمّد ( ص) الرؤية. فقال أبو الحسن الرضا : فمن المبلِّغ عن اللّه إلى الثقلين الجنّ والإنس : انّه ( لا تدركه الأبصار ) و(لا يحيطون به علما )و( ليس كمثله شي ) أليس محمّد ( ص ) ؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلف جميعا فيخبرهم انّه جاء من عنداللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لا تدركه الأبصار) و (ولا يحيطون به علما )و( ليس كمثله شئ ).  ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر. أما تستحيون ؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة : فانّه يقول : ( ولَقَدْ رَآهُ نزلةً اُخْرى ) فقال أبو الحسن ( ع ) إنّ بعده هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤادُ ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمّد ( ص ) ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) فآيات اللّه غير اللّه. وقال ( لا يُحيطون بِهِ عِلْما ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة : فتكذب الروايات ؟ فقال أبو الحسن : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه انّه لا يحاط به علما ، ولاتدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء) ( النص عن الملل والنحل للسبحاني ج7 ص 494 ونقله عن  الاحتجاج للطبرسي  ج2 ص 184, تفسير البرهان للبحراني ج 4 ص228) 

اغتيال الامام
بعد استتباب الامور للمأمون وامتصاص نقمة الناس وتهدئتهم, قرر المأمون التخلص من الامام وإلا ستكون الخلافة إليه وفقا لكتاب ولاية العهد للأمام , فكان سلاح القتل الصامت!
 قال الصفدي (وآل أمره مع المأمون الى أن سمّه في رمّانة... مداراة لبني العباس) (الوافي بالوفيات ج22 ص 251 للصفدي , مآثر الانافة في معالم الخلافة , ج1 ص211 للقلقشندي)
وذكر مثل ذلك الطبري في تاريخه في أحداث سنة 203 هجرية.
ومن دلائل انتشار شهادة الامام عليه السلام بالسم ماكتبه عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب , للخليفة المأمون, فبعد استشهاد الأمام كتب المأمون لعبد الله بن موسى المذكور طالباً منه القدوم إليه ليجعله مكان الامام الرضا ويبايع له , فأجابه عبد الله بن موسى في رسالة طويلة ننقل منها قوله (فبأي شئ تغرني ؟ ما فعلته
بأبي الحسن ( يعني به الامام الرضا ع) بالعنب الذي اطعمته إياه فقتلته . والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له) ( النص عن مقاتل الطالبيين ص 416) , وظل عبد الله بن موسى متواريا عن السلطة إلى ان توفي أيام المتوكل. بعد رحيل الرضا عليه السلام, أفضت الامامة الى ابنه الامام محمد الجواد ع.

9-الامام التاسع : الجواد  محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قبل استشهاد الامام الرضا عين الامام لخواصه وأنصاره صاحب الأمر من بعده , وقال لهم أن الامام هو ابنه محمد الجواد , وكان عمر الجواد آنذاك ثلاث سنين!
   (عن الرضا(ع) قال:لما أردت الخروج من المدينة جمعت عيالي وأمرتهم أن يبكوا عليَّ حتى أسمع بكاءهم ، ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار ، ثم قلت لهم: إني لا أرجع إلى عيالي أبداً .  ثم أخذت أبا جعفر( الجواد) فأدخلته المسجد ، ووضعت يده على حافة القبر وألصقته به واستحفظته رسول الله(ص) ، فالتفت أبو جعفر فقال لي: بأبي أنت وأمي، والله تذهب إلى عادية ( أمر خطير) !وأمرت جميع وكلائي وحشمي له بالسمع والطاعة وترك مخالفته ، والمصير إليه عند وفاتي ، وعرفتهم أنه القَيِّم مقامي) ( النص عن الجواد للكوراني , وعن دلائل الأمامة ص 349 للطبري), كان عمر الجواد آنذاك ثلاث سنين , فتأمل ولاتعجب , فرويداً سيزول العجب.
 (عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا(ع) قد كنا نسألك عن الإمام بعدك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر ، وكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، وقد وهب الله لك وأقر عيوننا. ولا أرانا الله يومك ، فإن كانت الحادثة فإلى من نفزع ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه. فقلت: جعلت فداك ، وهو ابن ثلاث سنين؟! فقال: وما يضره ذلك ، قد قام عيسى(ع) بالحجة وهو ابن سنتين ). (الجواد للعلامة الكوراني, وعن عيون المعجزات ص 108 لحسين بن عبد الوهاب)
يبدو غريباً تعيين طفل إماما للناس يرجعون إليه في دينهم وحوائجهم, ويزول الاستغراب عندما يستغرق الباحث عن الحقيقة في ترجمة هذا الإمام الكريم.
 لقد دعا النبي الكريم (ص) علياً إلى الاسلام وهو صبي لما يبلغ العاشرة ولم يدع غيره من الصبيان والأطفال ,وجعله خليفته منذ أوائل الدعوة وقصة ذلك مشهورة في السيرة ففيها يدعو النبي (ص) وجوه  قريش إلى مأدبة ويقول لهم ( قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة , وقد أمرني ربي أن ادعوكم اليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا . فقال علي أنا يا نبي الله أكون وزيرك . فأخذ الرسول برقبة علي وقال : أن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا , فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع ولدك علي.)( كنز العمال للمتقي الهندي ج6 ص 397 , الكامل لابن الاثير ج2 ص  144, راجع كذلك فصل نظام الحكم في بداية الكتاب ففيه ذكر الحادثة وفيه إشارة لتحريف النص في بعض الكتب الحديثة) تأمل سفاهة الناس في عدم إدراكهم  حكمة النبي (ص) ! لقد أثبتت الأيام أن علياً هو وزير النبي وخليفته ولم يكن صغر سنه بعائق عن ذلك, فنعمة الأمامة التي من الله بها عليه جعلته يفوق الكبار في علمه ,وهذه مراجع التاريخ تشهد أن النبي (ص) لم يؤمر أحداً على علي طوال حياته رغم صغر سنه , ولنتذكر أن الأمامة من الله وليس من البشر وقد مر بنا بحث ذلك.  مثل ذلك فعل النبي (ص) مع الحسن والحسين , ففي طفولتهما كان النبي يقول ( الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا)( علل الشرائع ج1 ص 211 للصدوق, الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص 196 لابن طاووس, كشف الغمة للأربلي ج2 ص 156, مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 141,  مجمع البيان للطبرسي  الجزء2 صفحة311 ) ولم يفعل ذلك مع غيرهما من الاطفال. إن الانبياء  والأوصياء ليسوا كباقي البشر فهم معلمون لا يأخذون العلم من غيرهم, بل هم مصدر المعرفة , وتغيب هذه الحقائق عن الناس وهو في خضم عوالمهم المادية فيسخرون منها كما سخرت قريش من النبي (ص) في حديث المأدبة أعلاه. لقد ضرب القرآن الكريم في أكثر من موضع أمثالاً على تسدي أصفياء الله منازل القيادة وأمامة البشرية ,  فقد كان النبي عيسى ع نبياً وهو في مهده , وتعجب القوم من أمه مريم عندما قالت لهم أسألوه فهو يجيبكم  ( فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً, قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) ( مريم 29-30),والنبي يحيى ع كذلك أتاه الله الحكمة والمعرفة وهي صبي صغير ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) (12سورة مريم) ومثله النبي سليمان بن دواد (ع) .
كان للإمام الجواد وهو طفل صغير مناظرات مع علماء عصره وقضاته بحضور الخليفة المأمون , دونت تلك المناظرات  كتب عديدة ككتاب الاحتجاج وغيرها, وأثبت  الامام في تلك المناظرات والمسائل أن صغر السن ليس بحائل عن الامامة الربانية , فكان يبهر الحضور بأجوبته , وفي أحد المرات  لم يسع الخليفة المأمون إلا أن يقدم له ابنته ( ابنة الخليفة) كي تصبح زوجة للأمام الجواد تشرفاً به وأعجاباً لنبوغه , وكذلك للسيطرة على تحركات الأمام ومراقبته, فكما مر بنا أن المأمون هو الذي قتل الامام الرضا والد الامام الجواد فكيف يسعه ترك هذا الامام في منأى عن نظره ومراقبته فكانت حيلة تزويجه من ابنته أم الفضل, وكان عمر الامام آنذاك تسعة سنين! لقد استحدث المأمون حيلة الزواج هذه من قبل مع الامام الرضا كذلك حيث كان قد زوجه من أخته , ثم كرر نفس الحيلة من الامام الجواد , ومن حكم الزمان أن الامام الرضا لم يُخلف من أخت المأمون وربما لم يدخل بها , ومثل ذلك فعل الامام الجواد فعندما  قارب العشرين من عمره استدعاه الخليفة المأمون من المدينة إلى بغداد وأمره بالدخول على زوجته , ويعني هذا أنه لم يدخل بها  قبل كل تلك الفترة  :(فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب, من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة ، ولقيه بها فأجازه ، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل ، وكان زَوَّجَهَا منه ، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة ، فأقام بها ، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة ، ثم أتى منزله بالمدينة فأقام بها). (تاريخ الطبري ج7 ص 190 ذكر أيام المأمون).
لم تحمل أم الفضل بذرية من الامام الجواد وكان للأمام ذرية من غيرها , وتلك حكمة يدركها العارفون , فكأن الامام لم يشأ أختلاط نسبه الشريف بالمأمون وأمثاله , فمثلما فعل أبيه  الرضا مع أخت المأمون فعل هو كذلك , ومثلما لم يخلف جده الحسن بن علي بن أبي طالب من زوجته المنافقة جعدة بنت الاشعث فبقيت بلا ولد ولاذرية وإن كان للأمام الحسن بن علي ذرية كبيرة من غيرها من نساءه لكنه حرمها من الذرية لعين الحكمة , ومثل ذلك فعل خاتم الانبياء والرسل (ص) مع بعض زوجاته , فكانت له ذرية من خديجة  ومن مارية القبطية  فقط ,ولم تكن له ذرية من باقي زوجاته فحرمهن من الذرية رغما عن أن بعضهن في عمر يؤهلن للحمل والانجاب كعائشة ابنة أبي بكر وحفصة أبنة عمر.
 نجح المأمون في هذه الدنيا الفانية  في السيطرة على الدولة بحيلة ولاية العهد التي عهد بها الى الامام علي الرضا من بعده, فامتص نقمة الناس وضغط على العباسيين الذين وقفوا مع أخيه الأمين في حرب الخلافة  ثم توج نجاحه الفاني ذلك بإغتيال الامام الرضا بالسم , وقد تقدم  ذكر ذلك . لقد كرر الخليفة المأمون حيل غدره مع الامام الجواد كذلك, فقربه ليتسنى له مراقبته وزوجه ابنته بالأجبار لكنه لم يسع لقتله , وليس لصغر سن الامام سبب في ذلك فقد كان الامام في صباه سيد عصره في العلوم والدين , انما سبب ذلك يعود الى وصية الامام الرضا للمأمون! فعلى الرغم من معرفة الخليفة المأمون بعلو مكانة الامام الرضا وتبجيله له فأن الدنيا الفانية وحب الملك أعماه عن التسليم لعظمة الامام الرضا فاغتاله مع علمه بمكانته ومع علمه بمعرفته وعلمه الرباني . يروي التاريخ ان الامام الرضا قال يوما للخليفة المأمون يوصيه بولده الامام الجواد : ( أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ( الامام الجواد) , فإن عمرك وعمره هكذا , وجمع بن سبابتيه) ( عيون أخبار الرضا ج2 ص270 للصدوق) . ونكرر , أن المأمون كان يعلم هيبة بيت النبوة وعظمته , وشاهد بعينه وعيون جيله مناظرات وعلوم الامام الرضا وكراماته الربانية وشاهد مثل ذلك علوم أبيه الامام موسى الكاظم , فلم يرى لهم لغط في قول أو ضعف في علم, ولذلك يقيناً علم أن عمره مع عمر الامام الجواد كما بين له الامام الرضا , فحفظ للجواد حياته خوفاً أن تنتهي حياته هو ( المأمون) , وبدل قتله وأغتياله سلط عليه العيون والجواسيس وهل هناك أقوى من ربط ابنته ( المأمون) بالامام بعقد الزواج!. عاش الامام الجواد في عهد المأمون وهو موقن بأن أجله سيريه هلاك المأمون وحقا تم ذلك فهلك المأمون مسموماً برطب وهو على نهر البدندون في سوريا في غزوة للروم وكان ذلك سنة 218 هجرية ( بتصرف عن الجواد شبيه عيسى للعلامة الكوراني ونقله عن تاريخ الطبري ج7 ذكر أيام المأمون) وكأن لطائف الاقدار عاقبته بما فعله بتسميم الامام الرضا , ويسيرا بعد هلاك المأمون استشهد الامام الجواد بسم الخليفة المعتصم ( أخو المأمون) سنة 220 هجرية , وتحققت كلمة الامام الرضا عندما قال له ( إن عمرك وعمره هكذا وجمع بين سبابتيه )!

إستشهاد الامام الجواد
(ولد في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة ، وقبض سنة عشرين ومائتين 220 ، في آخر ذي القعدة ، وهو ابن خمس وعشـرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً ودفن ببغداد في مقابر قريش عند قبر جده موسى الكاظم . وقد كان المعتصم أشخصه إلى بغداد في أول هذه السنة التي توفي فيها .)  ( الجواد للعلامة الكوراني ونقله عن الكافي 1 ص 492 للكليني, التهذيب ج6 ص 90 للطوسي, المقنعة ص 483 للشيخ المفيد , تاريخ أبي الفدا ج2 ص33)
روى المسعودي واللفظ له (بويع للمعتصم أبي إسحاق محمد بن هارون في شعبان سنة ثماني عشرة ومائتين . فلما انصرف أبو جعفر الجواد (ع) إلى العراق  لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون الحيلة في قتله ، فقال جعفر لأخته أم الفضل وكانت لأمه وأبيه في ذلك ، لأنه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدة محبتها له ، ولأنها لم ترزق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً ، وجعلوا سمُاً في شئ من عنب رازقي ، وكان يعجبه العنب الرازقي ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي، فقال لها: ما بكاؤك؟والله ليضربنك الله بفقر لا ينجى وبلاء لا ينستر . فبليت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها ، صارت ناسوراً ينتقض عليها في كل وقت ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى رفد الناس ، ويروى أن الناسور كان في فرجها . وتردى جعفر بن المأمون في بئر فأخرج ميتاً، وكان سكراناً) ( الجواد للكوراني ونقله عن أثبات الوصية ص 227 للمسعودي , دلائل الامامة ص 395 للطبري , عيون المعجزات ص 118 للحسين بن عبد الوهاب , المناقب ص287 لابن شهرآشوب)
عمر قصير حافل بالعطاء
بالرغم من عمر الامام الجواد القصير في هذه الدنيا فأنه ترك لنا تراثا واسعا من العلوم والمسائل, وليس قصر العمر بمأخذ على من ملأ دهره بالعطاء والدعوة لهذا الدين. فهناك من يعيش العمر الطويل ثم ينقضي أثره بموته  , وهناك من يعيش قليلا لكنه يملأ الدنيا ويشغل الناس وتبقى أعماله تسطع في صفحات التاريخ كالأمام الجواد عليه السلام. كانت علاقة الامام مع وكلائه في البلاد حيوية ومستمرة يرسل لهم الرسائل ويبعثون إليه بالمسائل والمتصفح لسيرته يحسب  أنه عَمَّر طويلاً لكثرة ماقدمه للناس من علوم وعطاء, ولكثرة مواقفه مع سلاطين الجور . رحل عليه السلام  وهو في الخامسة والعشرين من عمره لتصبح الامامة لابنه الامام علي الهادي.




10-الامام العاشر : الهادي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب :
ويسمى كذلك بعلي العسكري لسكنه في محلة عسكر في سامراء , وكان الخليفة  المتوكل قد استقدمه من المدينة الى سامراء وأمره بالاقامة بها. ( علي العسكري سمي بذلك لأنه لما وجه لاشخاصه من المدينة النبوية إلى سر من رأى واسكنه بها ، كانت تسمى العسكر فعرف بالعسكري ، وكان وارث أبيه علماً وسخاء) ( الصواعق المحرقة ص 205 لابن حجر, نور الابصار ص 149 للشبلنجي)

الجواد يوص بالامامة من بعده لابنه علي الهادي
(لما خرج أبو جعفر(ع) ( الجواد) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه ، فإلى من الأمر بعدك؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة .  فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك ؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم التفت إليَّ فقال: عند هذه يخاف عليَّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي). (الكافي ج1 ص 323 للكليني ). تأمل الكشف الرباني للأمام عن أجله, ففي المرة الاولى علم أنه سيسلم أما في المرة الثانية فقد أيقن بأنها المرة الاخيرة لخروجه وسوف لن يعود بعدها.
مثلما نال  الامام الجواد الامامة وهو صبي,  فأن ابنه الامام علي الهادي نال أمانة الامامة صبيا كذلك وهو في حوالي العاشرة من عمره وترجح الروايات أنه كان في الثامنة من عمره ! شهد الناس كراماته وهو صبي, فعند استشهاد أبيه الجواد في بغداد , كان ابنه الامام الهادي في المدينة المنورة , وقبل وصول خبر الوفاة بالبريد الذي كان يستغرق أياما طويلة , فأن الامام الهادي أعلم أهله وخاصته باستشهاد أبيه ساعة وفاته : (عن هارون بن الفضل قال: رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر(ع) فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون ، مضـى أبو جعفر. فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنه تداخلني ذلة لله ، لم أكن أعرفها) ( الجواد للكوراني عن الكافي ج1 ص 381 للكليني, إثبات الامامة ص 221) فأقيم المأتم قبل وصول الخبر .

صراع الظلمة مع الائمة لايعرف الاعمار !
إن المعتصم العباسي قاتل الامام الجواد ع لم يكن ليترك ابنه علي الهادي طليقاً, فضيق عليه وهو لما يزل صبياً , وعرف المعتصم أن هذا الصبي ( علي الهادي) ليس كغيره من الصبيان بل هو مثل أبيه وأجداده أفذاذ في  العلم والتقوى, ولم يكن صغر السن بحائل له عن نيل الإمامة  , لكن المعتصم تجاهل ذلك تعمداً  وأوكل إلى أحد قادته وهو عمر بن فرج الرخجي  متابعة الامام الهادي ومراقبته وتعيين معلم له وكأن الامام بحاجة إلى معلم يعلمه ! إن المعتصم العباسي أراد أن يظهر للناس أن هذا الصبي كغيره من الصبيان يحتاج إلى مؤدب ومعلم , ونقول مادخل الخليفة المعتصم المقيم  في سامراء بتعليم صبي يعيش في المدينة المنورة ؟  لكنها ألاعيب السياسة والملك وأساليب السلطة في تشويه صورة الائمة والحط من منزلتهم. كان الرخجي من المشهورين ببغض آل بيت النبوة(ص) فكان أختيار المتوكل للرخجي ملائماُ لغايته.  وقد مر بنا ذكر الرخجي وبغضه للعلويين وكما يلي:
(واستعمل (المتوكل) على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشئ وان قل إلا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرما ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر)( مقاتل الطالبيين ص 397) 
  روى المسعودي :( قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد(ع) فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله(ص) فقال لهم: أُبْغُوا لي رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم، لا يوالي أهل هذا البيت! لأضمه إلى هذا الغلام ( يعني به الامام علي الهادي) وأُوكله بتعليمه، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه . فأسموا له رجلاً من أهل الأدب يكنَّى أبا عبد الله ويعرف بالجنيدي ، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر الغضب والعداوة (لأهل البيت) ! فأحضره عمر بن الفرج ، وأسنى له الجاري من مال السلطان ، وتقدم إليه بما أراد ، وعرفه أن السلطان (المعتصم) أمره باختيار مثله ، وتوكيله بهذا الغلام .  قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن (علي الهادي)  في القصر بِصِرْيَا ( صريا , هي منطقة تبعد ثلاثة أميال عن المدينة المنورة وهي محل ولادة الامام الهادي) فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله ، وأخذ المفاتيح إليه ! فمكث على هذا مدة ، وانقطعت الشيعة عنه ، وعن الإستماع منه ، والقراءة عليه . ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً عليَّ: تقول الغلام ، ولا تقول الشيخ الهاشمي ! أُنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا. قال:فإني والله أذكر له الحزب من الأدب ، أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي عليَّ بما فيه أستفيده منه ، ويظن الناس أني أُعلمه  وأنا والله أتعلم منه ! قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك فسلمت عليه وسألته عن خبره وحاله، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك ، هذا والله خير أهل الأرض ، وأفضل من خلق الله تعالى، وإنه لربما همَّ بالدخول فأقول له: تنظر حتى تقرأ عشرك فيقول لي: أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيهذُّهَا بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط ، بأطيب من مزامير داود النبي(ع) التي بها من قراءته يضرب المثل . قال ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ، ونشأ بين هذه الجواري السود ( في نسخة ماثر الكبراء بدلا من الجواري السود , كُتبَ الجدران السود) ، فمن أين علم هذا ؟ قال: ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به) ( الجواد للكوراني ونقله عن دلائل الامامة ص230 للمسعودي, ومثله في اعلام الهداية سيرة الهادي ع , وورد مثله في  مآثر الكبراء في تاريخ سامراء  ج3 ص 91 ومابعدها)
تأمل هذه المعاناة والتضييق على صبي في مقتبل عمره , محاصر مراقب ومسلط عليه من يعلمه وهو العالم العارف , فيا له من صبر ويالها من معاناة , ونقول ليس عجباُ  عند جماهير الناس وعن بعض من يتسمون بالعلماء أن تغيب عنهم سيرة الائمة الاثني عشر, فيخلطون في تفسيراتهم ويحتارون في تأويلاتهم كما مر بنا في تفسير حديث الائمة الاثني عشر. إن السلطة الغاشمة وجنودها من وعاظ السلاطين والانتهازيين ساهموا جميعا في أبهام الحديث الشريف وتضليل الجماهير عن إدراك كنه معناه, ومعاناة الائمة والتضييق عليهم وحصارهم  هو الذي ضيع الحقيقة التي لاينالها إلا المجتهد الكادح .
بعد هلاك الخليفة الماجن المعتصم العباسي خلفه ابنه الواثق ومن بعده خلفه المتوكل, وقد تقدم ذكر عن المتوكل ومدى بغضه لكل مايمت لال النبي (ص) بصلة , ومرت بنا حادثة هدم قبر الامام الحسين في عهده وكيف منع الناس من زيارة ضريحه عليه السلام وغيرها من أحداث. أصدر الخليفة المتوكل العباسي أمراً إلى  الامام الهادي يطلب منه الرحيل عن المدينة المنورة والقدوم إلى عاصمة الدولة  سر من رأى( سامراء اليوم). ذكر ابن الجوزي فقال ( إنّما أشخصه المتوكل إلى بغداد ، لأن المتوكل كان يبغض علياً وذريته ، فبلغه مقام علي ( الهادي) بالمدينة ، وميل الناس إليه فخاف منه ) (تذكرة الخواص لابن الجوزي ص  322.) .
وذكر ابن هرثمة وهو أحد قواد المتوكل دخوله المدينة المنورة لأخذ الأمام الهادي إلى المتوكل العباسي  في سامراء فيقول :
( دخلت المدينة فضج أهلها ضجيجاً عظيماً  ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ اي الإمام الهادي  ـ وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ، وكتب علم، فعظم في عيني) ( تذكرة الخواص ص 254 لسبط ابن الجوزي), تأمل تعلق الجماهير بالأمام وحبهم له , وتأمل سياسة السلطة في محاصرة الأمام وأجباره على الاقامة في سر من رأى ( سامراء) تلك المدينة التي هي معسكر لجيش السلطة. كان المعتصم العباسي ( أبو المتوكل) قد أتخذ من سامراء مقرا جديدا لجيشه وجعلها عاصمة الدولة لتذمر أهالي بغداد من عسكر السلطة التركي.( راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 259  , تاريخ اليعقوبي ج2 ص 472) كانت الاقامة الاجبارية للأمام الهادي في سامراء ملائمة للسلطة الغاشمة, فليس في المدينة سوى العسكر التركي وقصر الخلافة.
أقام الامام الهادي سجينا في بيته بسامراء, تحوطه العيون ويرقبه جواسيس الخليفة وحتى في خلوة بيته تلك كان المتوكل العباسي خائفاً منه ! روى ابن خلكان واللفظ له
( أبو الحسن علي الهادي ابن محمد الجواد بن علي الرضا ، وهو أحد الأئمة الاثني عشر ، وكان قد سعي به إلى المتوكل وقيل : إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، واوهموه انه يطلب الأمر لنفسه فوجه اليه بعدة من الاتراك ليلاً فهجموا عليه في منزله على غفلة ، فوجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من شعر ، وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن والوعد والوعيد ، ليس بينه وبين الأرض بساط إلاّ الرمل والحصى) (وفيات الاعيان لابن خلكان ج2 ص 435, البداية والنهاية لابن كثير ج11 ص15 , عن سلسلة أعلام الهداية ).

المتوكل العباسي يسعى لاغتيال الأمام فيخطفه الموت بدعاء الامام
سعى المتوكل أكثر من مرة لأغتيال الأمام , وفي أحدى المرات طغى المتوكل وركب فرسه وأمر الناس في يوم الفطر بالمشي بين يديه راجلين لإذلالهم , وكان اليوم يوما قائظا شديداً , و حضر الامام علي الهادي مجبراً فمشى مع الناس بين يدي المتوكل , لنقرأ التاريخ:  
 لما كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمر( المتوكل) بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل له أبوالحسن ( الامام الهادي) ، فترجّل بنوهاشم ، وترجّل ( الإمام الهادي) فاتكأ على رجلٍ من مواليه ، فأقبل عليه الهاشميون ، فقالوا له : يا سيدنا ، ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا اللّه! فقال لهم أبو الحسن  : في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على اللّه من ناقة ثمود ، لمّا عقرت وضجّ الفصيل إلى اللّه ، فقال اللّه جل وعلا : تمتعوا فيداركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) )هود 65) ، فقتل المتوكل في اليوم الثالثوروي أنه قال وقد أجهده المشي : أما إنه قد قطع رحمي ، قطع اللّه أجله) (النص عن الامام الهادي لعلي موسى الكعبي ونقله عن  إثبات الوصية للمسعودي ص 240, الخرائج للرواندي ج1 ص 204, ومثله في مهج الدعوات لابن طاووس ص 330 ) , تأمل قوله:( اللهم إنه قطع رحمي , قطع الله أجله) فكانت موتة المتوكل على يد إبنه المنتصر وقد تقدم ذكر ذلك.
وروى الاربلي حادثة أخرى  وقعت بعد يوم واحد  من الحادثة أعلاه حيث يروي عن ابن أرومة قوله:
( خرجت إلى سر من رأى أيام المتوكل فدخلت إلى سعيد الحاجب ، ودفع المتوكل أبا الحسن ( الامام الهادي)  إليه ليقتله فقال لي : أتحب أن تنظر إلى إلهك! فقلت : سبحان الله ، إلهي لا تدركهالأبصار! فقال : الذي تزعمون أنه إمامكم؟ قلت : ما أكره ذلك. قال : قد أُمرت بقتله ، وأنا فاعله غداً ، فإذا خرج صاحب البريد فادخل عليه ، فخرج ودخلت وهو جالس وهناك قبر يحفر ، فسلمت عليه وبكيت بكاء شديداً ، فقال : ما يبكيك؟ قلت : ما أرى. قال : لا تبك إنه لا يتم لهم ذلك ، وإنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه ، فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل) (كشف الغمة للأربيلي ج3 ص 184)
هرع الامام الهادي إلى كنوز آل محمد (ص) في الدعاء , فروي عنه أنه قال (لمّا بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوزٍ نتوارثها من آبائنا ، وهي أعزّ من الحصون والسلاح والجنن ، وهو دعاءالمظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه اللّه) , وببركة ذلك الدعاء بطش الله جل وعلا بالمتوكل فزهقت روحه بعد ثلاثة أيام , وقد دونت كتب الادعية والمناجاة دعاء الامام الهادي ذلك واسم الدعاء ( دعاء المظلوم على الظالم), وهو دعاء طويل يجده الراغب في كتاب مهج الدعوات لابن طاووس وكتاب الخرائج للرواندي وغيرها , ننقل منه بعض سطوره للفائدة :
(....واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلاّ عليك فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً ، عالماً أنّه ﻻ فرج إلاّ عندك ، ولا خلاص لي إلاّ بك ، انتجز وعدك في نصرتي ، وإجابة دعائي ، فإنّك قلت وقولك الحق الذي ﻻ يردّ ولا يبدل: (ومن عاقب بممثل ماعوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله) وقلت جلّ جلالك وتقدّست أسماؤك : ( ادعوني استجب لكم ) ، وأنا فاعل ما أمرتني به لا منّاً عليك ، وكيف أمن به وأنت عليه دللتني ، فصلّ على محمّد وآل محمّد ، واستجب لي كما وعدتني يا من ﻻ يخلف الميعاد. وإنّي لأعلم يا رب أنّ لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم ، وأتيقّن أنّ لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب ، لأنّك ﻻ يسبقك معاند ، ولا يخرج عن قبضتك أحد، ولا تخاف فوت فائت ، ولكن جزعي وهلعي ﻻ يبلغان بي الصبر على أناتك وانتظار حلمك ، فقدرتك عليّ يا ربي فوق كلّ قدرة ، وسلطانك غالب على كل سلطان ، ومعاد كلّ أحد إليك وإن أمهلته ،ورجوع كلّ ظالم إليك وإن أنظرته ، وقد أضرّني يا ربّ حلمك عن فلان بن فلان ، وطول أناتك له وإمهالك إيّاه ، وكاد القنوط يستولي عليّ لولا الثقة بك ، واليقين بوعدك...)

الاضطرابات في الدولة ودور الإمام في الدعوة 
استطاع العسكر التركي ومنذ أيام  عهد الخليفة العباسي المعتصم ومابعده التحكم في الدولة , فبعد مقتل الخليفة المتوكل على يد ابنه الخليفة المنتصر كما مر بنا, جاء دور المنتصر ليموت قتلا كذلك بعد ستة أشهر من توليه الخلافة !(و لما ولي صار يسب الأتراك و يقول : هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه و هموا به فعجزوا عنه لأنه كان مهيبا شجاعا فطنا متحرزا فتحيلوا إلى أن دسوا إلىطبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ج3 أيام المنتصر) , ثم استطاع العسكر التركي تأمين وصول الخليفة المستعين الى سدة الحكم, والمستعين هو ابن أخ الخليفة المتوكل ( راجع الكامل لابن الاثير ج6 ص 150 ذكر إيام المستعين). بعد تولي المستعين للحكم ازدادت الأمور تعقيداً وجرت فتنة كبيرة في بغداد بسبب العسكر التركي, ومن جراء ذلك هرب الخليفة المستعين من سامراء والتجأ الى بغداد, فأسقطه العسكر من منصب الخلافة ونصبوا خليفة جديداً وهو  المعتز بن المتوكل  بعد إخراجه من سجن الجوسق, وكان المستعين قد سجنه فيه, ثم بايعوا المعتز بن المتوكل للخلافة فقام المعتز بإرسال جيش الى بغداد بقيادة أخيه الموفق وكلباتكين التركي, حاصر جيش الخليفة الجديد بغداد لأشهر عديدة فعانى الناس من الغلاء والبلاء وكثر القتل والسلب وانتشرت الاوبئة والامراض إلى أن تنازل المستعين وهو الخليفة الهارب الى بغداد عن الخلافة وخلع نفسه وبايع للمعتز العباسي وكانت هذه الاحداث خلال سنة 248-251 هجرية, ثم يرسل المعتز من يقتل المستعين فيُذبح ويحمل رأسه إلى المعتز( بتصرف عن الكامل لابن الاثير ج6 ص 164, تاريخ الخلفاء للسيوطي , ايام المنتصر ومابعدها), وروى السيوطي قول شاعر في حالة الدولة أيام حكم المستعين , وأمر الدولة كان بيد  بيد الاتراك كوصيف التركي وبغا التركي
خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ماقال له كما تقول الببغا
تأمل الصراعات على الحكم في دولة المسلمين , وتأمل الفوضى واختلاط الامور, ومع كل هذه الفوضى  في نظام الحكم لا يزال الكثير من يسمي تلك الايام بأيام الخلافة الاسلامية المجيدة ويضفي عليها الفخر والعز وكلمات منمقة لاتمت لتلك الفوضى بصلة.
في خضم هذه الفوضى والاضطرابات كان الامام علي الهادي  في عزلته المفروضة عليه ,  وقد يحسب القارئ أن الامام الهادي المقيم جبراً ببيته في سامراء لم يكن له سوى العبادة والصلاة , وهو حسبان يتوصل إليه من حجبته الحواجز المادية وأفسدته التحليلات الظاهرية واستعان بما مر به في تجاربه اليومية . لكن الأمر ليس كذلك عند الإمام,  فنظرة في سيرة هذا الرجل العظيم ترينا غير ذلك الحسبان , فقد ترك الامام  تراثاً كبيرا وعطاء وفيرا من النصوص , فمن رسائله في الجبر والتفويض إلى ارشاداته في الاخلاق إلى  تفسيره للقرآن الكريم, والى مقارعته للغلاة وأصحاب الفرق , حيث يرى الباحث علماً غزيراً يتجاوزعمرالامام المحدود ليتخلد في كتب المدونين ككتاب التوحيد للصدوق وكتاب من لايحضره الفقيه وكتاب الكافي وغيرها من كتب دونت ذلك التراث الخالد ,  ذلك التراث الذي  غاب عن جمهور الناس لتعصبهم المذهبي ونفورهم من الاطلاع على تلك المدونات.
إن القهر السياسي من السلطة الغاشمة أمر متوقع في كل العصور, ولذلك كان للأئمة وكلاؤهم من أمناء الناس  يبعثون بأسئلتهم الى الإمام ويستفتونه في أمور الدين والدنيا, ويجمعون الخمس ليوزعه الإمام على المسلمين , فبقاء الأمام مسجوناً في بيته لم يمنع أتباعه وخاصته من زيارته ولو سراً لينهلوا من علومه ويدونوها وينشروها . لقد أعد الامام الهادي من محل أقامته الجبرية في سامراء  جيلاً من أتباعه فرباهم وثقفهم بعلومه الربانية ولايسعنا في هذه العجالة إيراد تفاصيل ذلك .

الامام يهيئ الأمر من بعده للحسن العسكري ثم لقائم آل محمد (ص) المهدي المنتظر
عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، قال : ( دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( الامام الهادي): ، فلما بصر بي قال لي : مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت ولينا حقاًفقلت له : يا ابن رسول الله ، إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقي الله عز وجل؟ فقال : هات يا أبا القاسم .فقلت : إني أقول  أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين ، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة ، وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر من بعده أمير الموءمنين علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي
فقال الهادي (ع) : ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال : فقلت : وكيف ذاك يا مولاي؟ قال : لأنه لا يرى شخصه ، ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً فقلت : أقررت. وأقول : إن وليهم ولي الله ، وعدوهم عدو الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله. فقال ( الامام الهادي) علي بن محمد  يا أبا القاسم ، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ( الامام الهادي لعلي موسى الكعبي ص 218 , نقلا عن كمال الدين واتمام النعمة  ج1 ص 379 للصدوق المتوفى سنة 381 هجرية , وكذلك التوحيد  للصدوق )
الامام في الرواية أعلاه يبين من هم الائمة الاثنا عشر , فليس في دين الله غموض ولا تخمين كما مر بنا عند الجمهور الذين أحتاروا فيمن هم الائمة الاثني عشر, والمعترض على هذا الرواية تتحداه الحقائق في أن يأتي بتفسير واضح وتعيين محدد في من هم الائمة الاثنا عشر, وهو ما افتقر إليه جمهور السنة والمخالفين إلى يومنا هذا , فلا مناص للباحث سوى التسليم وقبول النص. تأمل أن الأمام الهادي في هذه الرواية وغيرها كثير يعين من سيكون الامام الثاني عشر ويصفه بقوله أنه الذي سيخرج ليملأ الارض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً, وقد ذكر الائمة من قبله ذلك , بل إن النبي الكريم (ص) بشر المسلمين بقدوم المهدي وعين من هو كما مر بنا بقوله (ص) ( .. يكون تسعة بعد الحسين تاسعهم قائمهم ) , ومن بعده أمير المؤمنين علي إذا قال وكما يلي  (سئل أميرالمؤمنين ، عن معنى قول رسول الله ( ص)إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي من العترةفقالأنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقونكتاب الله ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول الله (ص) حوضه.)( تمام الدين ص 240 للصدوق), ويذكرنا هذا بحديث العترة بقول النبي (ص) : ( وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) ( راجع تفسير حديث كتاب الله وسنتي أم كتاب الله وعترتي في فصل الامام علي  ).
إن الامام الهادي يذكر أصحابه وشيعته بذلك لدنو الزمن من ولادة القائم المهدي ع , فالامامة بعد الامام الهادي ستٌناط إلى ابنه الحسن العسكري ومن ثم للمهدي القائم , كما سيأتي ذكره.


استشهاد الإمام
عاصر الامام الهادي ستة من خلفاء بني العباس وهم : المعتصم(218 ـ 227 هـ ) والواثق(227 ـ232 هـ ). والمتوكل  (232 ـ 247 هـ ) والمنتصر (247 ـ 248 هـ ) والمستعين (248 ـ 252 هـ ). والمعتز (252 ـ 255 هـ ). وكان الذي استدعاه إلى سر من رأى (سامراء) وأمره بالأقامة فيها هو الخليفة المتوكل كما تقدم  , ويعني هذا أن الامام عاش في غربة المنفى في سامراء بعيداً عن المدينة المنورة جل حياته ,فيالها من معاناة وصبر عظيم. كانت فترة حكم المنتصر العباسي الذي دام حكمه ستة أشهر متنفساً للإمام وشيعته لكنها لم تدم وخلف ذلك أضطرابات تقدم ذكرها عاش فيها الإمام مترقبا الفرج .
( في هذه السنة ـ يعني سنة أربع وخمسين ومائتين 254 ـ توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى في داره التي ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني (( تاريخ بغداد ج12 للخطيب البغدادي)
استشهد الامام مسموماً في عهد العباسي المعتز وله من العمر إحدى وأربعون 41 عاماً ( بحار الانوار ج50 ص 117) وهناك رواية تقول أنه الذي أغتاله هو المعتمد العباسي (المناقب ج4 ص 433 لابن شهرآشوب ) ولاتناقض في ذلك فقد يكون قاتله هو المعتمد قبل توليه الخلافة وذلك في عهد أخيه المعتز وكلاهما من أولاد المتوكل العباسي وما بين فترة حكمهما ثلاثة سنين. اشتهر الخليفة المعتز بتعطشه لسفك الدماء وقتل خصومه بلا رحمه (راجع الكامل لابن الاثير ج6 ص 185 ذكر أيام المعتز ،وكذلك  تاريخ الخلفاء ص 279 للسيوطي) وقد مر بنا  ذكر  بعض شهداء الطالبيين في أيام المعتز العباسي في فصل (استمرار المؤامرة).
دفن الامام في داره التي عاش فيها سجينا في سرمن رأى (سامراء) ومقامه فيها معروف اليوم يقصده الزوار من كل بقاع العالم, وتقدم ذكر لحده الذي كان في داره أيام المتوكل , وهذا يعني أن الموت كان يتهدده منذ أيام المتوكل , وكانت بركة دعاءه تنجيه من محاولات الاغتيال ولكن لكل إجل كتاب, فكانت شهادته, إن عمره القصير (41 عاماً) دليل ساطع على إغتياله, فلم يكن الامام يشتكي من علة أو وجع قبل رحيله.

11-الامام الحادي عشر : العسكري الحسن  بن علي الهادي  بن محمد الجواد  بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق  بن محمد الباقر  بن علي السجاد  بن الحسين سيد الشهداء بن علي بن أبي طالب : ولُقب بالحسن العسكري كأبيه الامام الهادي, لأنه سكن محلة عسكر في سر من رأى ( سامراء). ولد الإمام في أواخر أيام الواثق العباسي سنة 232 هجرية على القول المشهور في ولادته, ورحل وهو طفل مع أبيه الامام الهادي إلى سامراء في أيام المتوكل العباسي الذي أصدر أمر الاقامة لهم في سامراء.

الامام علي الهادي يٌعلم خاصته بإمامة الحسن العسكري :
عن علي بن عمر النوفلي ، قال : ( كنت مع أبي الحسن العسكري  في داره ، فمرّ عليه أبو جعفر ، فقلت له : هذا صاحبنا ؟ فقال لا ، صاحبكم الحسن (يعني به الامام الحسن العسكري)( الامام العسكري لعلي الكعبي ونقله عن الغيبة للطوسي ص 198.)
عن علي بن مهزيار ، قال : ( قلت لأبي الحسن ( الامام الهادي) : إن كان كون ـ وأعوذ بالله ـ ( يعني إذا وافتك المنية)  فإلى من ؟ قال : عهدي إلى الأكبر من ولدي ) (الامام العسكري لعلي الكعبي وعن أصول الكافي ج1 ص 326) والامام الحسن العسكري هو أكبر أولاد الامام الهادي. وتقدم و في سيرة الامام الهادي بشارته بالامامة  للحسن العسكري ثم من بعده  للقائم صاحب الفرج ع .
أن تهيأة الامامة من أمام للأمام الذي من بعده مهمة صعبة في ظروف القهر السياسي آنذاك, فالأمام لايصرح إلا لخاصته وشيعته حفظا على حياة الامام من بعده, لأن تصريحه بأمامته ونشر خبر ذلك يؤدي إلى مطاردة السلطة للأمام واغتياله, وعدم تصريحه بأسمه يعني عدم تعريف الناس بالأمام ولا خلاص بين الحالتين سوى تعريف الخاصة والشيعة المقربيين فقط , فتجهل السلطة من هو الامام حتى حين.
نيطت الإمامة الى الامام العسكري بعد استشهاد والده الهادي في سنة 254 هجرية وذلك في أيام المعتز العباسي قاتل أبيه, فيكون عمر الامام الحسن العسكري عند إمامته أثنا وعشرون عاماً. القول المشهور أن  الامام العسكري عاصر في حياته ستة من خلفاء بني العباس وهم : الواثق, المتوكل , المنتصر , المستعين , المعتز, المهتدي, وأربع سنين من حكم المعتمد ليموت بالسم سنة 260 هجرية وله من العمر ثمان وعشرون عاماً, وعاصر في فترة إمامتة (باتفاق المصادر) ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم : المعتز (251-255 هجرية), المهتدي ( 255-256 هجرية ), والمعتمد (256-279 هجرية).

بين الائمة وخلفاء الجور صراع لاينتهي إلا بالموت!
 بعد استشهاد الامام علي الهادي بالسم في عهد المعتز العباسي, سعى المعتز كذلك إلى قتل الامام الحسن العسكري ! فقد أمر المعتز أحد قادته واسمه سعيد الحاجب بإخراج الامام الحسن العسكري من سامراء  إلى الكوفة ثم ضرب عنقه في الطريق ( راجع كشف الغمة للاربلي ج3 ص206, عن سلسلة أعلام الهداية ) ,وكتب أبو الهيثم وهو أحد أصحاب الامام الحسن العسكري مستفسراً عن أمر المعتز بإبعاده الى الكوفة  : (جُعلت فداك بلغنا خبرٌ أقلقنا وبلغ منا، فكتب الإمام العسكري إليه : بعد ثلاث يأتيكم الفرج ! فخلع المعتز بعد ثلاثة أيام وقتل) ( الخرائج للرواندي ج1 ص 461, عن سلسلة أعلام الهداية) , وهي حالة تذكرنا بهلاك المتوكل العباسي ( والد المعتز) عندما دعا عليه الامام الهادي وقد مرت بنا الرواية. وحقا فقد قُتل المعتز العباسي شر قتلة بعد ثلاثة أيام كما قال الامام , روى ابن الاثير في هلاك المعتز فدون:
(دخل إليه جماعة من الأتراك فجرّوه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه ، وأقاموه في الشمس في الدار ، فكان يرفع رجلاً ويضع اُخرى لشدّة الحر ، وكان بعضهم يلطمه وهو يتّقي بيده وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه ، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان ، وسلّموا المعتز إلى من يعذّبه ، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيّام ، فطلب حسوة من ماء البئر فمَنَعَه ثم أدخلوه سرداباً وسدّوا بابه ، فمات) ( الكامل لابن الأثير ج5 ص 356).
بعد هلاك المعتز نصب العسكر التركي خليفة جديدا وهو المهتدي (ابن الخليفة الواثق , والواثق أخو المتوكل أي أن المتوكل عم المهتدي) , لم يكن المهتدي بخير ممن سبقه فقد أمر بحبس الامام الحسن العسكري  ,وكأن الاقامة الجبرية في بيته لم تكن كافية! وروي كذلك أن الأمام كان يأتي كل يوم أثنين وخميس لقصر الخلافة لإثبات وجوده في المدينة  (كان يركب إلى دار الخلافة في كل إثنين و خميس و كان يوم النوبة يحضر من الناس شي‏ء عظيم) ( المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص434) , أما رواية سجنه فكما يلي :
 (قال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي: في هذه الليلة يبتر الله عمره، فلمّا أصبحنا شغب الأتراك وقُتل المهتدي وولّي المعتمد مكانه) ( مناقب آل بني طالب لابن شهر آشوب ج2 ص264, عن سلسلة اعلام الهداية سيرة الامام العسكري)
وحقا تحقق ذلك  , فالمهتدي الذي حكم أقل من سنة مات كذلك شر قتلة على يد الاتراك ,وذلك لأنه أمر بقتل بعض أمراء جنده من الاتراك للتخلص من نفوذهم , وندب لقتلهم أحد قادته وهو تركي أيضا واسمه بكيال, لنقرأ التاريخ  : (فكتب المهتدي إلى بكيال أن يقتل موسى ومفلحاً أحد أمراء الأتراك أيضاً أو يمسكهما ويكون هو الأمير على الأتراك كلهم فأوقف بكيال موسى على كتابه وقال إني لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا فأجمعوا على قتل المهتدي وساروا إليه فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأسروسنية وقتل من الأتراك في يوم أربعة آلاف ودام القتال إلى أن هزم جيش الخليفة وأمسك هو فعُصر على خصيتيه فمات وذلك في رجب سنة ست وخمسين 256 هجرية, فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يوما ) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ج1 ص232 طبعة النت) . بعد مقتل الخليفة بعصر خصيتيه نصب العسكر التركي خليفة آخر وهو المعتمد , والمعتمد هو ابن المتوكل وكان الخليفة المهتدي قد سجنه في سجن الجوسق فأخرجه الاتراك ونصبوه خليفة , تأمل هذه الفوضى في نظام حكم دولة المسلمين!

كيف اتصل الامام بشيعته؟
إن الاقامة الجبرية التي فرضتها السلطات على الائمة وأحيانا حبسهم لم تفعل فعلها كما ظن الطغاة , فالائمة يتمتعون بكرامات ربانية كثيرة منها قدرتهم على الخروج من القيود والسفر بكرامة طي الارض لهم وغيرها ,وهي كرامات يطول تفصيلها ,وسنذكر العوامل الواقعية التي استخدمها الائمة للاتصال بأنصارهم ! أوجد الائمة نظاماً سرياً للأتصال بالاتباع والمؤيدين, حيث كان للإمام وكلاء في كافة مناطق الدولة وأولئك الوكلاء كانوا يتصلون به عن طريق المكاتبة وأحيانا عن طريق التسلل إلى بيته واللقاء به. كانت رسائل الإمام وأجوبته إلى شيعته تحمل تواقيعه , ووردت روايات عديدة في أن أصحابه كان يدققون في خطه ويتأكدون من توقيع الامام حذرا من التزوير! قال احمد بن قاسم (دخلت إلى أبي محمد ( الحسن العسكري) فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال نعمثمّ قال : يا أحمد ، إن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكّن ، ثم دعا بالدواة ) ( النص عن الامام العسكري لعلي موسى الكعبي , المناقب ج4 ص 466, بحار الانوار ج50 ص286) , وكذلك كان الأمر إذا حملوا له الأموال وحقوق الخمس فكانوا يوصلونها بالسر عن طريق خاصته المقربيين, ثم يوزعها الإمام بنفس الطريقة السرية. وقد فصلت كتب تراجم الرجال في وكلاء الامام الحسن العسكري وأنصاره المقربين (ككتاب الرجال للنجاشي) كما دونت كتب كثيرة تلك المكاتبات والمراسلات السرية  بين الإمام ووكلاءه مثل كتب (مسائل الرجال ومكاتباتهم للحميري) (مسائل لأبي الحسن للعمري) وورد ذكر اسماء الوكلاء وترجماتهم في معاجم كتب الحديث.
ان تصفحا للتاريخ يرينا السرية التي اتبعها الامام وأعوانه في تجنب مواجهة السلطة الطاغوتية . يقول الامام الحسن العسكري لأحد أنصاره:
(إذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي امرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تعرّفه من أنت ، فاننا ببلد سوء ومصر سوء ) ( الامام العسكري لعلي الكعبي وعن المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص461)
وكان يوصي أصحابه بالكتمان وعدم التصريح بأمامته حيث يقول (إنّما هو الكتمان أو القتل ، فاتق الله على نفسك ) (الامام العسكري للكعبي وعن إثبات الوصية للمسعودي ص251, كشف الغمة للأربلي ج3 ص 302, البحار ج50 ) .
وبلغت  الحيطة عند الامام الحسن العسكري  أنه أوصى بعض أصحابه أن لا يسلّموا عليه حفظاً عليهم من جور السلطة: ( ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم ) ( الامام العسكري لعلي الكعبي وعن الخرائج للرواندي ج1 ص 439, البحار ج50  ترجمة الامام العسكري) , وقال لأحد شيعته يوما بحضور السلطان ( لاتدن مني , فإن علي عيوناُ وأنت خائف)( الامام العسكري للكعبي وعن الثاقب في المناقب للطوسي )
لقد مر الائمة جميعاً بهذا النوع من الحصار والمراقبة  بتفاوت في شدة التضييق وحسب طغيان الخلفاء وشرهم , إذن الاسلوب السري الذي أتبعه الامام الحسن العسكري لم يكن شيئا مستحدثا في وقته فقد استخدمه الائمة جميعاُ وكتب التاريخ والمدونات تشهد بذلك. وإذن بقيت الدعوة مستمرة وظل التبشير بدين محمد (ص) قائماً , فإذا نجحت السلطة الغاشمة في التضييق وتكتيم الافواه وتشويه منبع الخير  فإنها لم تنجح في إطفاء جذوة النور ,فالله تعالى متم نوره ولو كره الكافرون ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولم كره الكارهون)( التوبة 32).
لقد دونت كتب التاريخ والحديث وتراجم الرجال ذلك التراث الخالد لمطارحات الائمة وكتاباتهم وتوصياتهم وذبهم عن دين المصطفى محمد (ص), وتعريفهم للناس بأصول الدين الحنيف ونفيهم عنه التشويهات والانحرافات التي أستحدثها المبتدعون والجهال . إن  جهل العامة بذلك التراث الغني  يعود إلى  العقدة المذهبية التي منعت العامة من البحث والوصول الى ذلك التراث, تلك العقدة التي جعلتهم في عزلة ثقافية عن كل مايمت للائمة الاثني عشر , ولاننسى دور السلطات الغاشمة في ذلك وإذن الحصيلة النهائية عند جمهور السنة والمخالفين هي جهل عارم بسيرة الائمة وفقههم ,ومقاطعة مستمرة لدعوتهم الالهية جهلاً بمكانتهم وأحيانا خوفاً من الانضواء تحت لوائهم والقبول بدعوتهم المحمدية الخالصة , لأن هذا يعني  تغيير شامل للمفاهيم والعقائد التي ينشأ ونشأ عليها جمهور السنة والجماعة , ولايفعل ذلك إلا الحر الكادح وما أقل الاحرار في هذا العالم.
ترك الامام الحسن العسكري تراثاً غنياً من الرسائل والمكاتبات في التوحيد والمعارف والوصايا والنصائح  والتفسير, وخلف ثروة من الادعية والفتاوى والاحكام ورد الشبهات ومواجهة الفرق المنحرفة كالثنوية والواقفة والمفوضة والصوفية وغيرها, يجد الباحث ذلك التراث  في كتب الأمامية ككتاب الكافي للكليني وكتاب من لايحضره الفقيه وكتب التفسير والمناجاة وغيرها, ولايسع تفصيل ذلك في سطور قليلة, فعذرا.



الامام الحسن العسكري يمهد لعصر الغيبة
تقدم فيما سبق, أن تهيأة الامامة من إمام للإمام الذي من بعده مهمة صعبة في ظروف القهر السياسي آنذاك, فكان الامام يتخذ موقفا وسطا بين ذلك , فلايصرح للعامة بأسم الإمام الذي من بعده حفظاً على حياته من أيدي السلطة الظالمة, وفي ذات الوقت لايمكنه  أبقاء ذلك سراً لحاجة الناس لمعرفة الإمام , فكان الامام  يصرح لخاصته وأتباعه المخلصين فقط ويعين لهم من هو الامام من بعده. إن هذه المهمة الصعبة أزدادت صعوبة وتعقيداً في عهد الإمام الحسن العسكري فالإمامة من بعده ستناط إلى المهدي القائم ولم يكن ذلك بخاف على بعض الناس وعلى بعض الخلفاء لإن إمامة الامام المهدي كانت معروفة بين الناس. ومر بنا كيف اختطف سلاطين بني العباس إلقاب الامام المهدي المنتظر وانتحلوها لأنفسهم كلقب المنصور والرشيد والمهدي والهادي وغيرها. فلم يكن ترقب خروج الامام المهدي من المجاهيل. لقد نجح الامام الحسن العسكري بإخفاء ولده المهدي ( الامام الثاني عشر) عن العامة وعن سلاطين بني العباس!
(حدّثنا أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّيّ  قال : لمّا ولد الخلف الصالح ( يعني الإمام القائم ع) ورد عن مولانا أبي محمّد الحسن بن عليٍّ  ( الحسن العسكري) إلى جدِّي أحمد بن إسحاق كتاب فإذا فيه مكتوبٌ بخطِّ يده  الّذي كان ترد به التوقيعات عليه ، وفيه ( ولدلنا مولودٌ فليكن عندك مستوراً وعن جميع النّاس مكتوماً ، فإنّا لم نظهر عليه إلّا الاقرب لقرابته والوليّ لولايته أحببنا إعلامك ليسرّك الله به ، مثل ما سرَّنا به ، والسلام.) ( كمال  الدين للصدوق ص 434)
(عن حمزة بن أبي الفتح قال : جاءني يوماً فقال لي : البشارة ولد البارحة في الدّار مولود لأبي محمّد ( الحسن العسكري) وأمر بكتمانه ، قلت : وما اسمه؟ قال ، سمّي بمحمّد وكنّي بجعفر)( تمام الدين للصدوق ص 432), تأمل التغطية على اسم المولود فهو يسميه بجعفر كي يضيع الأمر على السلطة.
 وقال الامام الحسن العسكري لأحد شيعته ( يا أحمد بن إسحاق ، لولا كرامتك على الله عزوجل وعلى حججه ، ما عرضت عليك ابني هذا إنّه سمي رسول الله (ص) وكنيّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ).( كمال الدين للصدوق ص 384)
وقال كذلك (ابني محمّد هو الإمام والحجة بعدي. من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر الى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة) (كمال الدين للصدوق ص 409)
حفظ الأمناء عهدهم للأمام  بعد رحيله فظلوا يكتمون سر ولادة القائم من بعده وكما يلي :
 طلب عبد الله بن جعفر الحميري معرفة اسم الامام القائم ( الثاني عشر) من أحد أمناء الامام العسكري وهو ابن سعيد العمري, فقال العمري: ( إياك أن تبحث عن هذا ، فانّ عند القوم أن هذا النسل قد انقطع )( كمال الدين للصدوق ص 442)   وفي حديث آخر : ( قلت : فالاسم ؟ قال العمري : محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول هذا من عندي ، فليس لي أن أحلّل ولا اُحرّم ، ولكن عنه ( الحسن العسكري) ، فإنّ الأمر عند السطان أنّ أبا محمد ( الحسن العسكري) مضى ولم يخلف ولداً ، وقسّم ميراثه ، وأخذه من لا حق له فيه ، وهو ذا عياله يجولون ليس أحدٌ يجسر أن يتعرّف إليهم أو ينيلهم شيئاً ، وإذا وقع الاسم وقع الطلب ، فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك ) (أصول الكافي ج1 ص 330 , باب في تسمية من رآه). (النصان الأخيران عن كتاب  الحسن العسكري لعلي موسى الكعبي ). تأمل قوله : مضى ولم يخلف ولدا وقسم ميراثه... الخ. إذن عند رحيل الامام العسكري ظنت السلطة الغاشمة بعدم وجود خليفة للإمام فميراثه قسم بين ورثته ولم يشمل ذلك ابنه الامام القائم ع.
قبل أجيال من ولادة الامام المهدي كانت وصايا الائمة لانصارهم هي صيانة اسم الامام المهدي المنتظر والتكتم عليه ما استطاعوا ويدل هذا على الكتمان الشديد حفظا لحياة الامام الثاني عشر الامام المهدي , فهذا الامام الرضا يقول في المهدي : (لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه )(الكافي ج1 ص 333). وروي عن الصادق قوله قبل ولادة المهدي بأجيال: (صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلا كافر) (الكافي ج1 ص 333), وعن الامام موسى الكاظم أنه قال في المهدي(يخفى على الناس ولادته، ولا تحل لهم تسميته حتى يظهره الله عز وجل فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) ( الزام الناصب للحائري ج1 ص 249 ونقله عن بحار الانوار ج51 ص 32).  
مهد الامام الحسن العسكري الأمور للأمامة من بعده وبين ذلك لخاصته وشيعته وعرفهم من هو الإمام من بعده و نجح في خداع السلطة العباسية بإسقاط وليده الامام القائم من حسابات الدولة , فظل الأمام القائم المهدي متخفياً عن الناس لايراه إلا خاصته وشيعته المقربين وبذلك أنتهى عهد شديد من ظلم آل بيت النبوة (ص), وكانت الارهاصات التي سبقت ذلك في عهود الائمة هي التي مهدت لهذه الفترة , فلم ينج إمام واحد من الائمة من القتل والاغتيال ,ولذا كان لزاماً أن يختفي الامام الثاني عشر عن عيون السلطة وسيأتي تفصيل ذلك في سيرته .



استشهاد الامام الحسن العسكري
لاظهار أن وفاة الإمام وفاة طبيعية كانت السلطة تأتي بالاطباء والحاشية ووجوه القوم ليشهدوا جثمانه , وقد تكررت هذه الحالة عند وفاة معظم الائمة  كالامام الكاظم والامام الجواد وعلي الهادي . وكذلك الحال عند رحيل الامام الحسن العسكري الذي فارق الحياة ولما يبلغ عقده الثالث من عمره أيام حكم  المعتمد العباسي.
 (عن أحمد بن عبيدالله بن خاقان انه قال : لما اعتل ابن الرضا ( يعني به الامام الحسن العسكري)  ، بعث جعفر بن علي الى أبي : أن ابن الرضا قد اعتل فركب أبي من ساعته مبادراً الى دار الخلافة : ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم الخليفة كلهم من ثقاته ورجال دولته وفيهم نحرير( طبيب) ، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي (الامام الحسن العسكري) وتعرّف خبره وحاله ، وبعث الى نفر من المتطببين وأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده في الصباح والمساء ، فلما كان بعدها بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف فركب حتى بكّر إليه ثم أمر المتطببين بلزومه وبعث الى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم وبعث بهم الى دار الحسن وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً فلم يزالوا هناك حتى توفي لأيّام مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائين 260 هجرية(الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 271, أصول الكافي للكليني ج1 ص 305 , كمال الدين للصدوق , عن سلسلة أعلام الهداية سيرة العسكري ع ) .
وروى الصدوق :(وصلى صلاة الصبح على فراشه , وأخذ القدح ليشرب فأقبل القدح يضرب ثناياه, ويده ترعد, فأخذت صقيل ( جارية له) القدح من يده ومضى من ساعته صلى الله عليه, ودفن في داره بسر من رأى إلى جانب أبيه وصار إلى كرامة الله جل جلاله , وقد كمل عمره تسعا وعشرين سنة) ( البحار ج50 ص 323, كمال الدين ج2 ص 149)
إن سجن الامام الحسن العسكري عدة مرات ومراقبته وملازمته بالحضور إلى قصر الخلافة كل يوم أثنين وخميس لأثبات وجوده في سامراء , ومحاولة نفيه إلى الكوفة كانت خاتمتها رحيله عن هذه الدنيا الفانية شهيداً .




12- الامام الثاني عشر : المهدي الحجة القائم المنتظر  م ح م د بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين سيد الشهداء بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
)ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)( القصص5)
بعد استشهاد الامام الحسن العسكري عام 260 هجرية , نيطت الامامة من بعده لولده م ح م د المهدي وعمر الامام المهدي آنذاك خمس سنين , ولا عجب في ذلك فالإمامة  هبة مجعولة يهبها الله من يشاء من عباده , وتقدم  أن أبيه الحسن العسكري تولى الامامة وهو في العشرين من عمره , وتولاها جده الامام علي الهادي  بعمر تسع سنين ومن قبله الامام الجواد بعمر ثمان سنين, و تبين  في ترجمة الامام الجواد أن الامامة  لاعلاقة لها بصغر السن.  إن نوط الامامة الذي حمله الائمة الثلاثة قبل المهدي وهم في سن مبكرة  كان تمهيداً للناس لتقبل إمامة المهدي وهو في صغره , فقد كان الامام الجواد يناظر الفقهاء والعلماء بحضرة الخليفة المأمون وهو في العاشرة من عمره كما تقدم ,وتلك كرامة شاهدها القاصي والداني وسجلتها كتب التاريخ , وإذن فالناس لم يتعجبوا عندما تولاها الامام علي الهادي وهو صغير كذلك , فلما كان أوان إمامة المهدي كان الناس قد ألفوا تلك الكرامة عند الأئمة وقبلوها والله أعلم حيث يجعل رسالته.
 تقدم  ذكر التضيق والحصار الذي فرضته السلطة الغاشمة على جميع الائمة, حتى نيلهم الشهادة. إن ذلك الضيق والحصار لم يتوقف بل إزداد عنفاُ  في حياة كل إمام , وبعد استشهاد الحسن العسكري وحتى قبل وفاته كان هم السلطة الاول هو القضاء على نسله لإنهاء مكانة الائمة تماما من الواقع السياسي والديني .
ومر ذكر أن ولادة الامام المهدي كانت محوطة بالسرية والكتمان الشديدين حفظا على حياة الامام , وقلة قليلة من خاصة الامام الحسن العسكري عرفوا بولادة المهدي , ان السلطة تعقبت بيت الامام الحسن العسكري بعد استشهاده ووضعت العيون على النساء والخدم بحثاً عن الخلفة وللتأكد من عدم حبل نساء الامام!
ذكر التاريخ فعل السلطة بعد وفاة الامام الحسن العسكري:
(  وبعث السلطان إلى داره ( دار الامام الحسن العسكري) من يفتشها ويفتش حجرها, وختم على جميع مافيها وطلبوا أثر ولده, وجاؤوا بنساء يعرفن الحبل , فدخلن على جواريه فنظر أليهن, فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حبل, فأمر بها فجعلت في حجرة , ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم. ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته وعطلت الاسواق وركب أبي وبنو هاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازته , فكانت سر من رأي يومئذ شبيها بالقيامة) ( البحار للمجلسي ج50 ص 328, وعن كمال الدين للصدوق ج1 ص 120), لقد كان قول النساء : (إن هناك جارية بها حبل )  تمويها للسلطة فيروى أن تلك الجارية بقيت تحت المراقبة حتى تأكدوا من عدم حبلها !
( فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حَبَلاً بها لتغطي حال الصبي ، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي ! وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة ، وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت عن أيديهم.....) ( راجع القصة كاملة في كمال الدين للصدوق ج2 ص475)
إن ذلك الحصار المفروض على بيت الامام الحسن العسكري وعلى عائلته كان من اسباب اختفاء الامام المهدي وهو في عمره آنذاك ( خمس سنين), وتقدم  ذكر أخفاء اسم الامام في ترجمة الامام الحسن العسكري التي دلت على حيطة الائمة في أخفاء الامام عن أعين السلطة . سميت فترة الاختفاء  بالغيبة الصغرى ودامت مايقارب السبعين عاماً( ابتدأت من سنة 260 إلى سنة  329 ه‍جرية), فيها كان الامام يتصل بشيعته عن طريق أربعة وكلاء سريين وهم كل من : عثمان بن سعيد العمري لمدة 5 سنوات , محمد بن عثمان بن سعيد العمري لمدة 40 سنة, أبو القاسم الحسين بن روح لمدة 21 سنة, أبو الحسن علي بن محمد السمري لمدة 3 سنين . بعد الغيبة الصغرى أمر الامام المهدي وكيله الاخير أبو الحسين السمري أن لايأتيه بعد ذلك لوقوع الغيبة الكبرى وهي فترة النيابة العامة عن الامام, وبدأت بنهاية الغيبة الصغرى ولازالت قائمة حتى الان. إن علة الغيبة أثارت شكوكا عند المخالفين , وسيأتي ذكر ذلك فيما بعد.

لماذا الغيبة الصغرى ولماذا غيبة كبرى ؟
سؤال يخطر في بال كل طالب علم , فإذا كان القهر السياسي والديني هو أحد أسباب الغيبة فلماذا لم تكن الغيبة غيبة واحدة ؟  لماذا لها فترتان زمنيتان؟ يرد الشهيد محمد باقر الصدرعلى ذلك فيقول(الغيبة الصغرى  حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام ، واستطاعت ان تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة ، وتعدّهم بالتدريج لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام )( بحث حول المهدي للشهيد الصدر) , ثم يستأنف : (أنّ المهدي حقيقة عاشتها أمة من الناس ، وعبّر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين ، ولم يلحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدة تلاعباً في الكلام ، أو تحايلاً في التصرف ، أو تهافتاً في النقل. فهل تتصور ـ بربك ـ أنّ بإمكان أكذوبة ان تعيش سبعين عاماً ، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها ، ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون ان يبدر منهم أي شيء يثير الشك ، ودون ان يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطئ ، ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع ، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنهم يحسونها ويعيشون معها؟! لقد قيل قديماً : إنّ حبل الكذب قصير ، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل ، وكلّ هذه المدة ، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء ، ثمّ تكسب ثقة جميع من حولها.) ( بحث حول المهدي للشهيد محمد باقر الصدر) , ونقول إن الغيبة الصغرى التي دامت مايقارب السبعون عاماً انتهت بأمر من المهدي نفسه , حيث أمر وكيله بالانقطاع عنه حتى يأذن الله بالظهور , وفي هذا يقول بعض المشككين أن الوكلاء الاربعة انتحلوا تمثيل الامام المهدي, واستفادوا من غيبته , ورد ذلك هين وهو إذا كان الوكلاء استفادوا ماديا وأجتماعيا بتمثيلهم الزائف للأمام المهدي , لماذا إذن أعلنوا نهاية الغيبة وأنهوا أتصالاتهم بالناس من شيعة المهدي؟ فإذا كانوا مستفيدين من تمثيلهم للامام لظلوا يمثلونه إلى اليوم ولتوارثوا تلك المهمة الرابحة التي تدر عليهم أموال الخمس وتعطيهم سلطة غيبية على الناس, ومن الجدير أن نتذكر أن وكيل الامام المهدي وهو محمد بن عثمان بن سعيد العمري , استلم وكالة تمثيل الامام عن أبيه عثمان بن سعيد العمري , فلماذا لم يورثها هو الاخر لولده الى نهاية الدهر مستفيدا من ذلك المنصب؟
قبل ولادة الامام المهدي بسنين وفي عصر جده الامام الصادق, قال الصادق مبشرا بغيبة المهدي المنتظر ومفسراً سرها لأحد أصحابه وكما يلي :
 (عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الصادق: إن لصاحب هذا الأمر ( المهدي) غيبة لا بد منها، يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له: ولم جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم. قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (ع) لا وقت افتراقهما. يا بن الفضل إن هذا الأمر أمر من أمر الله، وسر من سر الله وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا( (إلزام الناصب لليزدي الحائري ج1 ص 378 ونقله عن بحار الانوار للمجلسي ج52 ص 91, كمال الدين للصدوق ص 482), وفيه كذلك (عن الأعمش عن الصادق  قال: لم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال سليمان: فقلت للصادق : فكيف ينتفع بالحجة الغائب المستور؟ قال عليه السلام: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب)( إلزام الناصب لليزدي الحائري ج1 ص 378 , وعن البحار ج23 ص 5 , أمالي الصدوق ص253), تأمل أن التمهيد للغيبة بينه الائمة لأتباعهم قبل ولادة المهدي بأجيال, وتقدم بيان الامام جعفر الصادق للناس أيام ثورة محمد بن عبدالله بن الحسن في عهد العباسيين, حيث بين الصادق أن محمد بن عبد الله بن الحسن ليس بالمهدي فأوان المهدي لم يأت بعد , وتلك رواية تاريخية موثقة تدل على معرفة وقت ولادة الامام المهدي عند الائمة جميعاً (  راجع فصل استمرار المؤامرة ,باب المذابح أيام الدولة العباسية ) ,  وهناك قول للأمام الحسين (ع) :( لصاحب هذا الامر (يعني الامام المهدي) غيبتان, أحدهما تطول , حتى يقول بعضهم : مات , وبعضهم قُتل , وبعضهم : ذهب) (  النص عن عقد الدرر للمقدسي الشافعي ص 178)
تقدم ذكر تصريحات باقي الائمة لأتباعهم في بشارات ولادة المهدي وتمهيدهم لولادته. إذن ولادة الامام المهدي وغيبته ليست وليدة عهده إنما هي في علم الائمة توارثوها عن جدهم النبي محمد (ص) , وستأتينا بشارات النبي الكريم في الامام المهدي , وكذلك تساؤلات عن الغيبة وردودها , فرويداً.
وفي الغيبة يبين الامام  المهدي (ع) بنفسه لوكيله محمد بن عثمان : (وأما علة ما وقع من الغيبة فإن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (المائدة 104) إنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي. وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فاغلقوا أبواب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا على ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى) ( إلزام الناصب للحائري ج1 ص 378 ونقله عن الاحتجاج للطبرسي ص 284, البحار للمجلسي ج53 ص 181) , و قوله ( وإكثروا الدعاء بتعجيل الفرج , فإن ذلك فرجكم.....) فيعني به أوان ظهوره عليه السلام , وفي ذلك يقول النبي الكريم (ص):
لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً ، قال ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي ، يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً) ( مسند احمد ج3 ص 36, المستدرك للحاكم ج4 ص 557, نقلاً عن معجم أحاديث المهدي للكوراني ص 193) ,وكذلك يقول النبي (ص) :      
(المهدي من ولدي، اسمه إسمي وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خَلْقاً وخُلُقاً ، تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً .) ( كمال الدين للصدوق ج1 ص 287). إذن الغيبة الكبرى ستنتهي بظهور الامام المهدي ليقيم دولة العدل الالهية ويملأ الارض عدلا كما ملئت جورا وظلما .

الامام المهدي في التراث الانساني وفي الاديان السماوية:
ليست دعوة المخلص المهدي وترقب قدومه بدعوة جديدة وإنما هي قديمة في التاريخ , فبشارات ظهور المخلص الذي سيأتي في سنين متأخرة نجدها في جميع التراث الانساني ,  حتى في الفكر المادي الذي يتلاشى  فيه التأثير الديني , يبقى ذلك  الفكر المادي متعلقاً بفكرة الخلاص وأنقاذ البشرية, وكأن فكرة المهدي المخلص فكرة مفطورة في التفكير الأنساني ,فالانسان يتطلع  إلى عدالة , إلى مخلص قوي يقيم العدل في الأرض ,وهذه الفكرة الفطرية في الانسان لابد أن لها جذور في خلقته, وهذا التفكير الانساني من دلائل وجود المخلص المنقذ في الواقع. فالجوع والشهوة للطعام دليل على وجود الطعام, والتوق إلى الحرية يدل على إمكانية وجود الحرية , فلايتطلع الانسان الى الضرر ويحبو نحوه بل هو متطلع نحو مايفيده ويحتاجه وبما تناديه فطرته , وهذا دليل على عظم التكامل في الخلقة وعلى عمق فكرة المخلص عند البشر . إن الملاحدة الذين بعنادهم  ينكرون وجود الخالق , تجدهم يحلمون بالمخلص الذي سيقيم العدل يوما ما , ففكرة أقامة العدالة مفطورة في الانسان, فمثلاً فلسف المفكر الشيوعي كارل ماركس وكذلك أتباعه فكرة الخلاص فقدموها بنظرية تحَّكم الطبقة العاملة ( دكتاتورية البروليتاريا) وقالوا أن هناك مرحلة  في التاريخ ستصل إليها الشعوب يوما ما وفيها  تحكم  الطبقة العاملة لينتهي الصراع بين الطبقات ويعيش الناس في وئام وتناغم  , ومثل ذلك كثير في التراث الانساني فاليوناني أفلاطون  سعى لتحقيق ذلك في مؤلفه ( الجمهورية) حيث يؤسس  لجمهورية فاضلة خالية من الاضطرابات والصراعات, وحتى في الادب فإن لفكرة المخلص المهدي وجود جلي , فالايرلندي برناردشو يلمح لذلك في كتابه ( الانسان والسوبرمان), والاديب البريطاني صموائيل بكيت يرمز لذلك في مسرحيته ( في انتظار غودو) ,ونجد هذه الفكرة عند المنجم نوستراداموس الذي ذكر في تنبواءته وجود منقذ للبشرية! إن البحث في التراث الانساني يرينا سطوع فكرة المهدي المخلص عند كل الاقوام مثل:الزرادشتيون والهندوس والبوذيون وغيرهم , ولامحل  لذكر هذه التفاصيل لضيق المقام , فعذرا, لكنها حقيقة يجدها الباحث بسهولة في أدبيات وكتب الاقوام السابقة. إن هذه الحاجة لوجود منقذ مخلص تتكامل مع وجود الامام المهدي وهي دليل فطري على وجوب وجوده.




بشارات الاديان الاخرى بالمهدي المخلص
في التوراة والانجيل بشارات عديدة  تبشر بقدوم مخلص منتظر في آخر الزمان  ليقيم دولة العدل الالهية : 
(يا إبراهيم أنا قد سمعنا دعاءك وتضرعك في إسماعيل فباركت لك فيه وسأرفع له مكانا رفيعا ومقاما عليا، وسأظهر منه اثني عشر نقيبا وستكون له أمة عظيمة) ( سفر التكوين 17-20) وهذه لاتفسر إلا بحديث الائمة الاثني عشر الذي تقدم ذكره , فالنبي محمد (ص) من آل اسماعيل بن ابراهيم والائمة الاثنا عشر من النبي, فهم جميعا من نسل اسماعيل  ,والامام الثاني عشر هو القائم المهدي.
إن هذه البشارة فسرها المفسرون المسيحيون على إنها بشارات بقدوم المسيح ع , لكن لاوجود للإثني عشر نقيبا في المسيحية , إما أحبار اليهود فلايقولون أنها فيهم لأن السفر يذكر اسماعيل, ومن نسله الطاهر كان المصطفى ومحمد (ص)  , إذن البشارة ليست في اليهود وليست في النصارى فهي في نسل اسماعيل الذي منه محمد (ص) ومنه ولد الائمة الاثني عشر, ثم تأمل تعبير السفر فهو يسمي الائمة بالنقباء ولم يسمهم بالانبياء وهو عين حديث النبي (ص) الذي مر بنا في اول الفصل. في سفر أشعيا هناك علامات لدولة المهدي وقد تكون حقيقة أو رمزا, وهي لم تتحقق لحد هذا اليوم :
 (فيسكنُ الذئبُ مع الخروف، و يربض النمر مع الجدي، و العجلُ و الشبلُ و المسمَّنُ معا، و صبىٌ صغير يسوقها. و البقرة و الدُّبَّة ترعيان، تربض أولادهما معا، و الأسد كالبقر ياكل تبنا. و يلعب الرضيع على سَرَب الصِّلّ، و يمد الفطيم يده على حُجر الأُفعوان. لا يسوءون و لا يُفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب كما تغطي المياهُ البحر. و يكونُ في ذلك اليوم انّ اصل يسَّىَ القائمَ رايةً للشعوب إياه تطلب الأمم، و يكونُ مَحِلُّه مَجْداً.) ( اشعيا 11, النص الاخير مقتبس عن  المهدي في التوراة لمعروف عبد الحميد)
ويقول السيد معروف عبد الحميد مايلي: (هذا النص يشبه رواية لأمير المؤمنين علي و هى التى يقول فيها: يملك المهدي مشارق الأرض و مغاربها، و ترعى الشاة و الذئب في مكان واحد، و يلعب الصبيان بالحيّات و العقارب و لاتضرهم بشيىء، و يذهب الشر و يبقى الخير)( المهدي في التوراة لمعروف عبد الحميد ص 15)
في مزامير داوود: ( اللهمَّ أعطِ شريعتك للملك , وعدلك لابن الملك ؛ ليحكم بين شعبك بالعدل , ولعبادك المساكين بالحق . فلتحمل الجبال والآكام السّلام للشعب في ظل العدل ؛ ليحكم لمساكين العشب بالحق , ويخلّص البائسين , ويسحق الظالم . يخشونك ما دامت الشمس , وما أنار القمر على مر الأجيال والعصور . سيكون كالمطر يهطل على العشب , وكالغيث الوارف الذي يروي الأرض العطشى . يشرق في أيامه الأبرار , ويعم السّلام إلى يوم يختفي القمر من الوجود , ويملك من البحر إلى البحر , ومن النهر إلى أقاصي الأرض أمامه يجثو أهل الصحراء , ويلحس أعداؤه التراب . ملوك ترسيس والجزائر يدفعون الجزية , وملوك سبأ وشبا يقدّمون هدايا . يسجد له كل الملوك , وتخدمه كل الاُمم ؛ لأنه ينجي الفقير المستغيث به , والمسكين إذ لا معين له . يشفق على الضعفاء والبائسين , ويخلّص أنفس الفقراء , ويحرّرهم من الظلم والجور , وتكرم دماؤهم في عينيه فليعش طويلاً , وليعطَ له ذهب سبأ , وليصلَّ عليه دائماً , وليبارك كلّ يوم فليكثر القمح والبُّر في البلاد حتّى أعالي البلاد , ولتتمايل سنابل القمح كأشجار جبل لبنان , وليشرق الرجال في المدينة كحشائش الحقول , ويبقى اسمه أبد الدهر , وينتشر ذكره واسمه أبداً ما بقيت الشمس مضيئة , وليتبارك به الجميع , وجميع الاُمم تنادي باسمه سعيدة )( التوراة, المزمور 72). تأمل قوله أعط شريعتك للملك ويعني به النبي محمد (ص) الذي اتى بالشريعة , ثم يقول ( وعدلك لابن الملك) , والامام المهدي من نسل النبي الكريم (ص) فهو من أبناء النبي (ص). قال المفسرون اليهود أن هذا المزمور ينطبق على سليمان وداوود, فهما أب وأبن  , ولكن عند أكمال قراءة النص نرى أن الامم يدفعون الجزية له وأن اسمه يبقى أبد الدهر, وهذا ينطبق على النبي محمد (ص) الذي يُنادى باسمه قبل كل صلاة , خمس مرات في اليوم ( نص المزمور وشرحه منقول بتصرف عن الموقع الالكتروني للعلامة حسن أنصاريان) ).  تأمل مايقول سفر أشعيا : (في ذلك اليوم أن اصل  يسى القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم، ويكون محله مجدا )(سفر أشعيا11) فالسفر يصرح بأنه القائم والقائم من ألقاب المهدي , ثم مامعنى قوله ( أن أصل يسي)؟ يقال أن يسي هو أبوداوود وفي اللغة المعاصرة يطلق عليه جسي, ومن المتفق عليه أن أم الامام المهدي هي من نسل داوود , فالمهدي جده النبي محمد (ص) من جهة الاباء ومن جهة أمه يكون أجداده من نسل داوود , وقد تكون (يسي) تعني أنه من نسل يس (ياسين) والمتفق عليه أن ياسين في القرآن تعني النبي محمد(ص) فآل النبي يسمون بآل يس , وبحث هذا يطول وتتكشف الحقائق لمن كان طلب العلم ديدنه.

سفر الرؤيا في الانجيل:
في سفر الرؤيا الاصحاح 12 ومابعده, رؤيا طويلة يتبين عند قرائتها والتمعن فيها أنها ترمز للائمة الاثني عشر وإلى الزهراء فاطمة ابنة النبي (ص) فهي أم الائمة جميعاً كما معلوم , وفي الرؤيا إشارة واضحة للمهدي الذي سقيم دولة العدل بالقوة ويكسر الشر المتمثل بقوى ابليس, وقد انتخبنا بعض الاسطر من الرؤيا :
 ( وظهرت آية عظيمة في السماء ؛ امرأة متسربلة بالشمس , والقمر تحت رجليها , وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً , وهي حبلى , تصرخ متمخّضة ومتوجّعة لتلد . وظهرت آية اُخرى في السماء, هو ذا تنين عظيم أحمر , له سبعة رؤوس وعشرة قرون , وعلى رؤوسه سبعة تيجان , وذنَبه يجر ثلث نجوم السماء , فطرحها إلى الأرض والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتّى يبتلع ولدها متى ولدت , فولدت ابناً ذكراً عتيدا أن يرعى جميع الاُمم بعصا من حديد , واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه .
والمرأة هربت إلى البرية ؛ حيث لها موضع معدّ من الله لكي يعلوها هناك . وحدث حرب في السماء ؛ ميخائيل وملائكته حاربوا التنّين , وحارب التنّين وملائكته . ولم يقووا ؛ فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء ؛ فطرح التنّين العظيم الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يظل العالم كله طُرح إلى الأرض , وطُرحت مع ملائكته . وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء : اليوم يوم الخلاص , القوة والملك لله ربنا وسلطان مسيحه من أجل هذا افرحي أيتها السماوات والساكنون فيها , ويل لساكني الأرض والبحر ؛ لأنّ إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم , عالماً أنّ له زماناً قليلاً . ولما رأى التنّين أنه طُرح إلى الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر , فأُعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية , إلى موضعها حيث تُعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحية فألقت الحية من فمها وراء المرأة ماءً كنهر لتجعلها تُحمَل بالنهر , فأعانت الأرض المرأة . وفتحت الأرض فمها وابتلعت النهر الذي ألقاه التنّين من فمه , فغضب التنّين على المرأة , وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله )(الانجيل , رؤيا يوحنا 12 )
يفسر العلامة حسين أنصاريان هذا السفر فيقول :
(لم يتمكّن علماء الكنيسة من تقديم تفسير واضح منطقي لهذه القصة وهذه الأوصاف ؛ فتارة يقولون : إن المقصود بالمرأة هي الكنيسة نفسها ، لكن هذا التفسير يصطدم بسؤال : كيف تلد الكنيسة ابناً ؟ ثم إنّ الكنيسة لم تظهر إلاّ في عهود متأخرة , ولم تكن على زمان عيسى(ع) , فكيفف يُدَّعى أنّ المقصود بالمرأة هي الكنيسة , وأنّ الابن الذي ستلده هو المسيح ؟!
وبعضهم ادعى أنّ المرأة المقصودة هي مريم العذراء (ع) ، لكن هذا المعنى لا يستقيم ؛ فإنّ مريم (ع) لم تكن لها ذرّية سوى ابنها المسيح (ع) ، وليس لها (شمس) و(قمر) و(اثنا عشر كوكباً ,وهي لم تدخل في صراع مع تنّين أو حية يريد أن يبتلع أبناءها الذين يحملون شريعة الله أمّا ادّعاء بعضهم بأنّ الكواكب الاثني عشر التي تشكّل إكليلاً يزين رأس تلك المرأة هم حواريو عيسى الاثنا عشر , فهو ادّعاء مردود أيضاً ؛ بحكم ما ورد بحقِّهم على لسان عيسى نفسه في الإنجيل من تقريع وتشكيك في إخلاصهم لرسالته ؛ فهو تارة يؤنّبهم مخبراً إياهم بأنهم سيشكّون به في المحنة ، وتارة يوبّخهم لتردّدهم في إيمانهم بمعجزاته . ثمّ ما علاقة المرأة بهؤلاء ؟! هل هم أولادها حتّى يقال : إنّ ثمة علاقة بينها وبينهم ؟!
وحقيقة الأمر أنّ رؤيا يوحنا هذه جاءت لتروي لنا باُسلوب درامي كنائي ملحمة آل بيت رسول الله (ص) ضد أعداء الله الذين يريدون أن يطفئوا نوره ويأبى الله إلاّ أن يتمّه .
فالمرأة القدّيسة هي الزهراء (ع) ، والشمس التي تتسربل بها هي كناية عن أبيها المصطفى (ص) ، والقمر الذي تستند عليه هو كناية عن بعلها أمير المؤمنين (ع) ، أمّا الكواكب الاثنا عشر فهم الأئمة الاثنا عشر من أبنائها (ع) الذين يخوضون دوماً صراعاً مع تنّين يمثّل الشر والفساد والكفر ، فيبتلع أحدهم , وليس هو سوى الحسين (ع)
لماذا الحسين (ع) ؟ فلنترك الإجابة لنبي الله إرميا (ع) إذ يقول : ( اصعدي أيتها الخيل , وهيجي أيتها المركبات , ولتخرج الأبطال ... فهذا اليوم للسيد ربّ الجنود (الله تعالى) يوم نقمة للانتقام من مبغضيه ؛ فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم ؛ لأنّ للسيد الرب ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات )(إرميا 46 ) من هو يا ترى ذبيح الله عند نهر الفرات سوى الحسين (ع) ؟ ومن هو الشمس , ومن هو القمر ورسول الله (ص) يقول : أنا الشمس وعلي القمر  ؟ أسئلة تحتاج من القساوسة إجابات واضحة ( انتهى الاقتباس عن العلامة حسين أنصاريان) ,ونقول أن هذه السفر غني بالاشارات الى الامام المهدي والى الائمة الاثني عشر وشرح ذلك يطول ويتشعب .

هل فكرة المهدي في الاسلام مأخوذة من الاديان السابقة وتاريخ الشعوب؟
هناك من يقول  بإن الاديان قد أخذت من بعضها البعض, فالاسلام أخذ من المسيحية والمسيحية أخذت من اليهودية  ,ووفقا لذلك يقولون إن بشارة الاسلام بالمهدي أنما هي بشارة مأخوذة من الاديان الاخرى ! ونقول إن هذه الحجة عليهم وليست لهم , فتشابه الاديان في مضامينها لايدل بالضرورة على انها تأخذ من بعضها البعض بل يدل على ان مصدر الاديان هو مصدر واحد ولهذا السبب تتشابه الاديان , إما الاختلافات فتعود إلى دور المحرفين الذي حرفوا الاديان وبدلوا مفاهيمها , وبسبب تلك التحريفات كانت رسل السماء تأتي كل فترة من زمن لتجديد الرسالة الالهية المحرفة , فالأديان عند الله واحدة و مصدرها  واحد, ولذا تسمى جميعا بالاسلام, إما الاسماء كالمسيحية واليهودية فهي ما أطلقه الناس على تلك الاديان وهو ما فعله كذلك المستشرقين عندما أطلقوا كلمة ( المحمديين) التي عنوا بها ( المسلمين). إذن بشارة المخلص المهدي في الاديان الاخرى تدل على إن مصدر الاديان واحد ,وهي وجدت في جميع الاديان لحقيقة المهدي وحقيقة ظهوره, ثم اختلف المفسرون في تفسيرها نتيجة المحرفين والمفسدين الذين أولوا الاسفار والايات وفقاً لأهوائهم .



بشارات النبي والائمة بالمهدي
أخبر النبي الكريم المسلمين أن المهدي هو من آل بيته وأنه من ولد فاطمة (ع) وأنه التاسع من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب وكما يلي :
-المهدي من آل بيت النبي  :( إلمهدي منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ).( الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص 215 , والحديث باسناداته المتعددة منقول عن معجم أحاديث المهدي للكوراني ) . وكذلك يقول النبي (ص): ( لو لم يبق من الدهر إلاّ يومُ لبعث الله رجلاً من آأل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جورا ) ( معجم أحاديث المهدي , وعن صحيح سنن المصطفى ج2 ص 207, سننن ابن ماجة  ج2 .)
-المهدي من ولد فاطمة ع: ( المهدي من عترتي من ولد فاطمة) ( معجم أحاديث المهدي, وعن الحاوي للسيوطي ج2 ص 214, عن أبي داود وابن ماجة والطبراني والحاكم, صحيح سنن المصطفى لأبي داود ج2 ص208)
-المهدي من ولد الحسين بن علي : (التاسع من ولد الحسين)( معجم آحاديث المهدي , وعن  ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : ص 492 ،  مقتل الإمام الحسين للخوارزمي ج1 ص 196 ،  فرائد السمطين للجويني الشافعي ج2 ص 310 ومابعدها.)
( خطبنا رسول الله  فذكرنا بما هو كائن ، ثم قال : لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد ، لطول الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي ، اسمه اسمي. فقام سلمان الفارسي  فقال : يا رسول الله ! من أي ولدك ؟ قال : من ولدي هذا ، وضرب بيده على الحسين )( عن كتاب المهدي المنتظر لمؤسسة الرسالة وعن المنار المنيف لابن القيم ص 148 ومابعدها, المعجم الاوسط للطبراني, عقد الدرر للمقدسي الشافعي ص 45, ذخائر العقبي للطبري ص 136, فرائد السمطين ي ج2 ص 325, القول المختصر لابن حجر ج7 ص 37, السيرة الحلبية ج1 ص 193, ينابيع المودة للقندوزي ج3 ص 63, ومثله في مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي ج1 ص 196, و كذلك في مصادر الشيعة ككشف الغمة ج3 ص 259)
بشر الائمة جميعا بالمهدي , وقد مرت بنا بعض بشاراتهم في ذلك ونزيد فيها للفائدة قول الامام الثامن علي بن موسى الرضا :
( إنَّ الإمام من بعدي ابني محمد ( الجواد) ، وبعد محمد ابنه علي ( الهادي) ، وبعد علي ابنه الحسن ( العسكري) ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره فيملاَ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، وأمّا متى يقوم ؟ فإخبار عن الوقت ، لقد حدثني أبي ، عن آبائه عن رسول الله قال : مثله كمثل الساعة لاتأتيكم إلاّ بغتة)( ينابيع المودة ج3 ص 115 80 نقلا عن فرائد السمطين للحمويني الشافعي)
وكذلك بشارة من الامام الصادق حيث يقول :
عن زرارة قال : سمعتُ أبا عبدالله ( الامام الصادق) يقول : إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم قال ، قلت : وَلِمَ ؟ قال : يخاف ـ وأومأ بيده إلى بطنه ( يعني الموت) ـ ثم قال : يا زرارة ، وهو المنتظر الذي يشك في ولادته منهم من يقول : مات أبوه بلا خلف ، ومنهم من يقول : حمل ( أي مات أبوه وهو حمل في بطن أُمه ) ، ومنهم من يقول أنّه ولد قبل موت أبيه بسنتين. وهو المنتظر غير أنَّ الله عز وجل يحب أنْ يمتحن الشيعة ، فعند ذلك يرتاب المبطلون ) ( أصول الكافي ج1 ص 337, كمال الدين ج2 ص 342).








سبب غموض فكرة المهدي عند جمهور السنة, وسبب الاختلاف بين السنة والشيعة في ذلك:
باختلاف مذاهبهم يتفق المسلمون جميعا على بشارة قدوم المهدي وإنه سيخرج في آخر الزمان ليملأ الارض عدلا كما ملئت جوراً , ولذا لا حاجة لأثبات ذلك لعموم الفكرة وقبولها عند جميع المسلمين فهم عليها في أتفاق , لكن الاختلاف بين جمهور السنة  وبين الشيعة الامامية هو في شخصية الامام المهدي نفسه, فجمهور السنة يقولون نعم سيأتي رجل اسمه المهدي في آخر الزمان ليقيم العدل في الأرض لكنه سيولد في حينه وعمره كباقي الناس ليس عمرا طويلا كما يقول الشيعة, وأكثرهم يقول أنه من نسل النبي محمد (ص).
يقول ابن خلدون :( اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار : أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت ، يؤيد الدين ، ويُظهر العدل ، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى المهدي ).( تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 555, النص عن المهدي لمؤسسة الرسالة)      
بينما الشيعة الامامية يقولون نعم نتفق على أن الرجل المخلص هو المهدي , لكنه لن يولد في نهاية الزمان , بل هو ولد قبل مئات السنين وهو ابن الامام الحسن العسكري ويعني هذا أنه من نسل النبي (ص) , وهو أختفى عن الناس وغاب وسيصلح الله أمره في أوان خروجه.
إن السبب الرئيسي في ضبابية حقيقة وجود المهدي عند المسلمين يعود إلى السلطة  العباسية في مطاردة الائمة وأنصارهم , فكان لزاماُ على الائمة أخفاء هذا الامر عن عوام الناس وعن السلطة. وتقدم بنا تمويه الائمة في تعيين الائمة من بعدهم حفظا على سلامتهم, فكانوا لايصرحون بالامامة إلا لأصحابهم المخلصين, ووصل الأمر إلى ذروته في عهد الامام الحادي عشر الحسن العسكري, وذكرنا كيف نجح الامام العسكري  في مهمة صعبة وقع فيها بين التصريح بالامام لخاصته وبين الاستتار على ولادة الامام للحفاظ عليه من بطش السلطة, فقد كانت السلطة أيام المعتمد العباسي في دأب باحثة عن نسل الامام العسكري وخليفته للقضاء على الأمام المرتقب . هذا من جهة , ومن جهة أخرى استفادت السلطة في التعتيم على وجود المهدي وهلل كتبة البلاط وفقهاء الدولة لاختفاء الامام فقالوا أن اختفاؤه دليل على عدم وجوده!  حتى قال بعض جمهور السنة  أن الامام الحسن العسكري لم يكن له ذرية ويعني هذا لاوجود أصلا لرجل اسمه م ح م د المهدي! ( سيأتينا تفصيل في هل أن الامام المهدي لم يخلق أصلاً كما قال بعض علماء السنة). إن انكار ولادة الامام المهدي أنقذت المعادين لال البيت من مسؤولية الرد على وجوده , فقالوا أن وجود الامام اسطورة صنعها فقهاء الشيعة, وفلسف بعضهم فقال أن القهر السياسي والتهميش الاجتماعي الذي لاقته طائفة الشيعة الامامية من السلطة ومن جمهور السنة أوجد عند الشيعة نظرية المهدي , لأن المظلوم يبحث عن خلاص من مظلمته فكان أختراع اسطورة المهدي بردا على قلوب الشيعة المظلومين!  بهذه الفذلكة السمجة استطاع بعض جمهور السنة  التخلص تماما من وجود الامام المهدي وتخلصوا من معضلة عدم فهم طبيعة حياته وغيبته , وكذلك استفادوا بهذا النكران من قطع نسل الائمة الأثني عشر والتفريط بحديث الائمة الاثني عشر وتشويهه , واستفادت السلطة الطاغوتية على مدى العصور من هذه الفكرة وعززتها ومحت  حقيقة  أن الامام المهدي من نسل النبي الكريم (ص) فهو لم يولد اصلاً كما يدعون , فصارت السلطة الغاشمة على مر السنين سلطة شرعية لا منافس لها ,حيث كان المنافس والمحارب الأول للسلطة هم الائمة الاثنا عشر وشيعتهم , فغياب الممثل الشرعي عن آل بيت النبوة وهو الامام المهدي , جعل للسلطة الغاشمة شرعية وديمومة في البقاء!
إن البناء على جرف هار ينهار لامحالة, فلاعزاء لناكري وجود الامام المهدي بهذه الترهات والفذلكات السمجة, لأن حقائق التاريخ لولادته ووجوده وبشارات النبي والائمة بقدومه تصفع وجوه المتحذلقين , وتقدم بنا إيمان الناس في بداية تأسيس الدولة العباسية بالمهدي وكيف أنتحل خلفاء بني العباس ألقاب المهدي المنتظر حتى سمى أبوجعفر المنصور ابنه بالمهدي , وهي حقيقة تاريخية مسلم بها وهذا دليل قاصم على ان فكرة المهدي ليست فكرة جديدة اخترعها الشيعة بسبب الظلم الاجتماعي كما يدعي المدعون بل هي حقيقة موجودة في أحاديث النبي الكريم, وعرفها المسلمون منذ السنين الاولى لدعوة الاسلام .حاول القائلون بنكران وجود الامام المهدي محاولات كثيرة لاثبات عدم وجوده , منها أنهم قالوا أن العمر الطويل للامام المهدي في غيبته الكبرى دليل على اكذوبة المهدي, لانه من المستحيل أن يعيش رجل ذلك العمر الطويل لمئات من السنين ! وقالوا كذلك إذا كان الامام المهدي موجوداً وغائبا في آن واحد فما هي الفائدة من وجوده, وقالوا إذا كان موجودا فلماذا لايظهر حتى يؤمن به الناس ويقيم دولة العدل الالهية ؟ وفيما يلي بعض تفصيل في هذه الشكوك:

هل حقاً أن الامام المهدي بن الحسن العسكري لم يولد أصلاً؟
تقدم ذكر أن بعض علماء السنة والمخالفين تخلصوا من وجود المهدي بن الحسن العسكري برفض حقيقة ولادته أصلا , وكذبوا أنه ولد للحسن العسكري وليد وقالوا أن الامام الحسن العسكري توفي وليس له ولد, وقد أخذ المتأخرين من الجمهوروكذلك المعاصرين هذه الفكرة وحليت عندهم فتخلصوا من معضلة فهم ديمومة حياة الامام المهدي وتخلصوا من صعوبة فكرة الغياب الطويلة للمهدي, وتخلصوا كذلك من استمرارية شرعية آل بيت النبوة في الحكم . سنذكر فيما يلي أقوال بعض من علماء السنة والمخالفين الذين ثبتوا في كتبهم  أن الامام الحسن العسكري كان له ولد اسمه م ح م د ولقبه المهدي وهذه الاقوال تخالف مايقوله الاخرين من جمهور السنة , وهذا يعني عدم اتفاق السنة على حقيقة المهدي , سنذكر اقوال علماء جمهور السنة في المهدي , ومن بعد ذلك سنتطرق إلى عمر المهدي الطويل وفترة غيابه.
أقوال علماء وفقهاء جمهور السنة الذين آمنوا بصحة ولادة الامام المهدي وأنه ابن الامام الحسن العسكري:
ـ النسابة أبو نصر سهل بن عبد الله بن داود بن سليمان البخاري من أعلام القرن الرابع الهجري ، كان حياً سنة  341 هجرية ، وهو من  علماء الانساب المعاصرين لغيبة الإمام المهدي الصغرى التي انتهت سنة 329 ه‍. قال في سر السلسلة العلوية : ( وولد علي بن محمد التقي ( الامام الهادي)   الحسن ابن علي العسكري  من أُم ولد نوبيّة تدعى : ريحانة ، وولد سنة احدى وثلاثين ومائتين وقبض سنة ستين ومائتين بسامراء ، وهو ابن تسع وعشرين سنة .. وولد علي بن محمد التقي جعفراً وهو الذي تسميه الإمامية جعفر الكذاب ، وإنّما تسميه الإمامية بذلك ؛ لادعائه ميراث أخيه الحسن  دون ابنه القائم الحجة. لاطعن في نسبه ) ( سر السلسة العلوية لابن نصر البخاري ص 39)
ـ السيد العمري من أعلام القرن الخامس الهجري , : ( ومات أبو محمد ( الامام الحسن العسكري)  وولده من نرجس  معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله ، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك ، وامتُحن المؤمنون بل كافة الناس بغيبته ، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله فدفع أنْ يكون له ولد ، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه ) ( المجدي في انساب الطالبيين للعمري ص 130)
ـ الفخر الرازي الشافعي المتوفى سنة 603 هجرية, ( أما الحسن العسكري الامام  فله ابنان وبنتان : اما الابنان ، فأحدهما : صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ( المهدي) ، والثاني موسى درج في حياة أبيه. وأما البنتان : ففاطمة درجت في حياة أبيها ، وأم موسى درجت أيضاً )( الشجرة المباركة في أنساب الطالبية  للفخر الرازي ص 78 ـ 79.)
ـ النسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني ,المعروف بابن عِنَبَه المتوفي سنة 828 ه‍جرية, قال ( أما علي الهادي فيلقب العسكري لمقامه بسُرَّ من رأى ، وكانت تسمى العسكر ، وأُمّه أُم ولد ، وكان في غاية الفضل ونهاية النبل ، أشخصه المتوكل إلى سُرَّ من رأى فأقام بها إلى أن تُوفي ، وأعقب من رجلين هما : الإمام أبو محمد الحسن العسكري  ، وكان من الزهد والعلم على أمر عظيم ، وهو والد الإمام محمد المهدي (ع) ثاني عشر الأئمة عند الإمامية ,وهو القائم المنتظر عندهم من أُم ولد اسمها نرجس. واسم أخيه أبو عبدالله جعفر الملقب بالكذّاب ؛ لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن )(عمدة الطالب في أنساب آل بني طالب ص 199)
 ـ المؤرخ ابن الأثير الجزري المتوفي سنة 630 هجرية , ( وفيها توفي أبو محمد العلوي العسكري ، وهو أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية ، وهو والد محمد الذي يعتقدونه المنتظر ) ( الكامل في التاريخ ج7 ص 274 باب حوادث سنة 260هجرية)
ـ  المؤرخ الذهبي وهو أموي الهوى وتوفي سنة 748 هجرية ,  : ( وفيها - أي في سنة 256 ه‍ - ولد محمد بن الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحُسَيْني ، أبو القاسم الذي تلقّبه الرافضة الخلف الحجة ، وتلقّبه بالمهدي ، والمنتظر ، وتلقبه بصاحب الزمان ، وهو خاتمة الاثني عشر ) ( العبر في خبر من غبر للذهبي ج3 ص 31). وقال كذلك  : ( الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق ، أبو محمد الهاشمي الحُسَيْني ، أحد أئمة الشيعة الذي تدعي الشيعة عصمتهم ، ويقال له : الحسن العسكري ، لكونه سكن سامراء ، فإنها يقال لها العسكر. وهو والد منتظر الرافضة ، توفي إلى رضوان الله بسامراء في ثامن ربيع الأول سنة ستين ومائتين وله تسع وعشرون سنة ، ودفن إلى جانب والده. وأما ابنه محمد بن الحسن الذي يدعوه الرافضة القائم الخلف الحجة فولد سنة ثمان وخمسين ، وقيل سنة ست وخمسين ) ( تاريخ دول الاسلام للذهبي, باب حوادث ووفيات سنة 251-260 هجرية), و كذلك : ( المنتظر الشريف أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي ابن الحسين الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب ، العلوي ، الحُسَيْني خاتمة الاثني عشر سيداً ) ( سير أعلام النبلاء للذهبي ج13 ص 119 ترجمة رقم 60)
ـ أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي المتوفى سنة  974 هجرية, ( أبو محمد الحسن الخالص ، وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري ، ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ... مات بسُرَّ من رأى ، ودفن عند أبيه وعمه ، وعمره ثمانية وعشرون سنة ، ويقال : إنّه سُمَّ أيضاً ، ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن أتاه الله فيها الحكمة ، ويسمى القائم المنتظر ، قيل : لأنّه سُتِرَ بالمدينة وغاب فلم يعرف أين ذهب )( الصواعق المحرقة لابن حجر ص 207 من الطبعة الاولى , ص 124 من الطبعة الثانية)
ـ خير الدين الزركلي المتوفي سنة 1396 هجرية , : ( محمد بن الحسن العسكري الخالص بن علي الهادي أبو القاسم ، آخر الأئمة الاثني عشر عند الإمامية .. ولد في سامراء ومات أبوه وله من العمر خمس سنين ) ( الاعلام للزركلي ج6 ص 80)
- سبط ابن الجوزي الحنبلي المتوفي سنة 654 هجرية , ( هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكنيته أبو عبدالله ، وأبو القاسم ، وهو الخلف الحجة ، صاحب الزمان ، القائم ، والمنتظر ، والتالي ، وهو آخر الأئمة ) ( تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص 363)
- ابن الصباغ المالكي: (ولد أبو القاسم  محمد ابن الحسن الخالص ( الخالص من ألقاب العسكري) بسر من رأى في النصف من شعبا سنة 255هجرية)( الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي باب 12 ص 273).
- القندوزي الحنفي :( الخبر المعلوم المحقق عند الثقات أن ولادة القائم كانت ليلة الخامس عشر من شعبان 255 هجرية في بلدة سامراء)( ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 449)
- الشبلنجي الشافعي : (وكانت وفاة أبي محمد الحسن بن علي ( الحسن العسكري) في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الاول سنة 260 هجرية وخلف من الولد م ح م د)( نور الابصار للشبلنجي الشافعي ص 185)
- ابن خلكان :(كانت ولادته ( الامام القائم) يوم الجمعة منتصف شعبان سنة 255 هجرية, ولما توفي أبوه وقد سبق ذكره كان عمره خمس سنين واسم إمه خمط وقيل نرجس)( وفيات الاعيان لابن خلكان ). ( المصادر أعلاه مقتبسة بأختصار وتصرف عن كتاب المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي لمؤسسة الرسالة)
نكتفي بهذا القدر من المصادر , ومن رغب في الزيادة فعليه بكتاب ( المهدي المنتظر الموعود) للسيد نجم الدين العسكري , حيث ذكر فيه اسماء أربعين 40 من علماء السنة الذين أقروا بوجود الامام المهدي , وكذلك كتاب ( منتخب الاثر) للسيد لطف الله الصافي , حيث ذكر ست وعشرين 26 إسما من علماء السنة أعترفوا بوجود وولادة الحجة المهدي .
ومن الجدير بالذكر أن كتاب صحيح البخاري يخلو من تصريح أسم  الامام المهدي, وإن كان قد ذكر وجوده لكنه لم يصرح بأسمه , ومر بنا أن البخاري كتب كتابه تحت أمر السلطة العباسية في عهد المتوكل,  فهل يعقل أن يكتب في كتابه مالايرغب السلطان أن يرى, فراجع وتحرى!
بعد ذكر هذه الاقوال أعلاه لايبق للمعاندين من جمهور السنة سوى الاقرار بحقيقة ولادة الامام المهدي وإن والده هو الامام الحسن العسكري, أما رفضهم هذه الاقوال فسيعني رفضهم لمذهب جمهور السنة واعترافهم بتناقضاته وفساده , أو عليهم القبول بهذه الحقائق المدونة التي كتبها مراجعهم وفقاءهم,  ويكون بذلك اعترافهم بأن الامام المهدي هو وليد الامام الحادي عشر الحسن العسكري, وعند ذلك ستواجههم  معضلة الايمان بطول عمر المهدي ومعضلة فهم طول غيبته واختفاءه وهو ما سيأتي .

شبهة العمر الطويل للإمام المهدي
من أسباب نكران وجود الامام المهدي عند كثير من علماء السنة هو تحججهم بطول عمره, فالمعروف أنه ولد سنة 260 هجرية , ونحن الان في سنة 1434 هجرية إي أن عمره الان يقارب  1174 سنة  بالحساب القمري ,لان الحساب بالسنوات الهجرية ( القمرية) ينقص عن السنوات الشمسية بقليل. وهذا العمر الطويل أمر مخالف للمألوف عند البشر فيهرع المشككون إلى هذه الحجة لإبطال وجود الامام وإمامته.
إن ناكري الامامة بحجة طول العمر مؤمنون بالله تعالى ومسلمون, وهم يؤمنون بالغيب
( ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ... ) ( البقرة 3) ويؤمنون بأنباء الغيب  : (تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك (هود 49), والغيب يشمل جوانب كثيرة في عقيدة المؤمنين, فالجن والملائكة والجنة والنار والصراط والبعث والقيامة جميعها غيبيات مخالفة للمألوف المادي الذي نراه , لكن الانسان المؤمن يؤمن بها أيمانا راسخاً , فأنكار وجود الامام بحجة  طول عمره أمر مخالف للمألوف المادي, ولكنه ليس مخالفا للدين الذي يقوم على الغيبيات  ؟ إن الدين قائم على الايمان بالغيبيات وماوراء الطبيعة فهل يصح لمن يؤمن بالغيبيات أن ينكر كرامة كونها مخالفة للواقع المادي؟ إذا كان الامر كذلك فعلى الناكر المتحجج بطول عمر الامام أن ينكر جميع الغيبيات كالجن والنار والجنة والملائكة  وعندها قد يحق له القول أن طول عمر الامام أمر مخالف للواقع المادي المألوف.
لقد ذكر القرآن الكريم  كرامات ومعجزات حدثت ولاتزال, والايمان بها يساعد الذين يشككون في العمر الطويل للإمام المهدي, ومن ذلك عمر النبي نوح (ع) , حيث يصرح القرآن الكريم أن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم للإيمان ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) ( العنكبوت 14)  , ويعني هذا أن عمره فاق ذلك, فالفترة الزمنية التي ذكرها القرآن ( ألف سنة إلا خمسين) هي مدة سنين دعوته لهم إما عمره فحتما أطول من ذلك . وكذلك في قصة أهل الكهف الذين أنامهم الله تعالى  فلبثوا في كهفهم لمدة  ثلاثة قرون, ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) ( الكهف 25), فكان عمرهم الطويل مثالا على كرامة الله لعباده. ومثل ذلك النبي عيسى المسيح (ع) الذي لم يزل حياً بصريح القرآن, فهو لم يمت كما في النص بل رفعه الله إليه:  (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا, بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) ( النساء157,158)
ولايزال المسيح حيا لم يذق الموت إلى يومنا هذا فيكون عمره (ع) اليوم قد فاق ألفين من السنين! وهناك النبي يونس (ع) الذي يقول القرآن فيه لولا أنه كان من المسبحين لخلد في بطن الحوت الى يوم القيامة ( فلولا أن كان من المسبحين, للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) (الصافات 143) , فأحتمال خلوده في بطن الحوت وراد لكن الله تعالى أخرجه ولم يخلده في بطن الحوت بفضل تسبيحه ودعاءه. إن هذه الامثلة شواهد على أمكانية طول عمر الانسان لمدة يعينها الله تعالى ويهبها لمن يشاء من مخلوقاته ووهناك أمثلة اخرى لطول عمر المخلوقات التي تخالف الواقع المألوف كطول عمر النبي خضر (ع) الذي يتفق كثير من جمهور السنة على طول عمره ومعرفته الربانية التي يتفوق بها على كثير من خلقه كما في قصته مع النبي موسى (ع) في سورة الكهف. إن العجيب أن يؤمن المسلمون بهذه الامثلة ويصرحون بأنها مخالفة للواقع المادي المعروف , ولكن عندما تأتيهم مسألة عمر الامام المهدي يتوقفون ويقولون ببطلانها بحجة أن طول العمر من المستحيلات !
إن شكوك الناس في المهدي وطول غيبته واختفاءه وزمن ظهور يلخصها الامام الرابع علي بن الحسين زين العابدين السجاد حيث يقول في حفيده المهدي قبل ولادته بعشرات السنين:
 عن سعيد بن جبير قال: سمعت زين العابدين علي بن الحسين (ع) يقول: (في القائم منا سنن من الأنبياء عليهم السلام ، سنة من أبينا آدم ، وسنة من نوح ، وسنة من إبراهيم ، وسنة من موسى ، وسنة من عيسى ، وسنة من أيوب ، وسنة من محمد (ص) : فأما من آدم و نوح فطول العمر ، وأما من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس ، وأما من موسى فالخوف و الغيبة ، وأما من عيسى فاختلاف الناس فيه ، وأما من أيوب فالفرج بعد البلوى ، وأما من محمـــد فالخروج بالسيف)( إعلام الورى للطبرسي ص402 ، منتخب الأثر للكلبايكاني ص300  ، كمال الدين للصدوق  ج1 ص322)
ومثله قول الامام الثامن الجواد : عن الصقر بن أبى دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا  يقول:
(أن الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي ، ثم سكت ، فقلت له يابن رسول الله فمن الإمام بعد علي؟ قال: ابنه الحسن ، قلت يابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى  بكاءً شديداً ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر ، فقلت له يابن رسول الله ، ولم سمي القائم؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذكره ، وارتداد أكثر القائلين بإمامته ، فقلت له: ولم سمي المنتظر؟ قال: لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها ، فينتظر خروجه المخلصون ، وينكره المرتابون ، ويستهزئ بذكره الجاحدون ، ويكذب فيه الوقاتون ، ويهلك فيه المبطلون ، وينجو فيه المسلمون) ( النص عن معجم أحاديث المهدي للكوراني وعن كمال الدين للصدوق والبحار للمجلسي )

تساؤلات عن الغيبة وزمن الظهور
ما الفائدة التي يجنيها المسلمون من إمام غائب لايتصل بهم ؟ ما سبب طول الغيبة ؟ ولماذا لايخرج الامام المهدي الآن أو من قبل ليملأ الارض عدلا ً ؟ فما هي العلة في أختفاءه وطول غيبته؟ ؟ أسئلة يطرحها المشككون بالأمام !
إن الغيبة  حدثت جراء ظروف سياسية وقمعية قاهرة , وتلك الظروف لاتزال قائمة إلى يومنا هذا , ثم أن الغيبة استمرت لعدم أكتمال أصحاب مخلصين للأمام  ينصروه عند خروجه, فغيبة الامام عن الناس كان بسبب تقاعسهم عن نصرته ونصرة آباءه فاللوم في ذلك على القوم, أما نكران فائدة وجوده بحجة أنه غائب فهو نكران فاسد !وإلا ماهي فائدة وجود النبي عيسى(ع) حياً في السماء؟ فالمتفق عليه بين المسلمين أن النبي عيسى (ع) لم يمت بل رفعه الله إليه وسيعود في نهاية الزمان,  فما هي فائدة وجوده حياً؟ ليس هناك جوابا مقنعا للسؤال , ولا مفر من ترك الامر لصاحب الامر فهو سبحانه القاضي بين عباده. ان فائدة وجود الامام لايراها المنكرون له والباغضون لآله ولكن يعرفها محبوه في قلوبهم , فوجود الامام أمان لأهل الارض من العذاب , قال النبي (ص): ( النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبتْ أتاها ما يوعدون، وأنا أمان لأصحابي ما كنتُ، فإذا ذهبتُ أتاهم ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون) ( المستدرك على الصحيحين للحاكم ج2 ص 486, المعجم الأوسط للطبراني  ج5 ص 319). إن هناك روايات كثيرة في أناس تشرفوا بلقاء الامام وفازوا برؤية طلعته وأثر كثيرا في سلوكهم وحياتهم , فلا سلب في غيابه بل أيجاب يناله المؤمنون به ويفتقده الناكرون.
إن الوجود الغيبي للجنة وللنار له تأثير عظيم على المؤمنين وحتى على الكافرين, ولكن الجنة والنار لايراهما أحد من أحياء البشر , فهل علة وجودهما او عدمهما واحدة ؟  أن لعلة وجود الجنة والنار على الرغم من عدم رؤيتهما تأثير يحدد سلوك الناس فينساقوا لفعل الخير خوفا من العذاب وطمعا في الجنة , فتأمل! ومثله وجود الامام الغائب المنتظر, أنه يشحذ همم المؤمنين وينير درب السالكين توقاً له وترقبا لظهوره , وذلك له تأثير عظيم كتأثير فعل الجنة والنار في العباد. إن الشمس التي خلف السحاب لانراها وعندما تكون في جانب الارض الاخر لانراها كذلك فهل يحق لنا نكران قوة وجودها وتأثيرها , ان العميان الذين لم يروا الشمس أحسوا بها وبحرارتها وفائدتها, فمتى يفتح عميان القلوب بصائرهم ليغمرهم نور بيت النبوة العظيم, فيعرفوا قيمة شكرانه وضيعة خذلان نصره, هؤلاء العميان يقول فيه أمير المؤمنين علي من حديث طويل حول المهدي وغيبته وانكار الناس له
(أما والله لا قتلن أنا وابناي هذان وليبعثن الله رجلا من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا، وليغيبن عنهم، تمييزا لاهل الضلالة حتى يقول الجاهل: ما لله في آل محمد من حاجة.)( البحار ج51 ص 112) تامل قول الناس الجهلاء  : (مالله في آل محمد من حاجة!) وهو عين من يقول ما الفائدة من إمام غائب ؟
أن غياب الامام له علاقة بمعجزة طول عمره وظروف أختفاءه وقصة الظلامة التي لاقاها آل بيت النبي الكريم (ص) , فغيابه الطويل شاهد على تلك الظلامة,وعلى مؤامرات الناس والحكام والاجيال والابالسة على النبي الكريم (ص) وعلى آله الطيبين , فحيرة ناكري وجوده حري أن تكون في ظلامته وسبب أختفاءه وليس في جدال فائدة غيابه. الناكرون غيابه عليهم أن يبينوا مافائدة غيبة النبي عيسى (ع), ومافائدة استتار الجنة والنار عن الناس إليس الاولى أن يشاهدهما الناس ليتقوا؟ ومافائدة اعتزال الانبياء والرسل لسنين طويلة ثم خروجهم بالدعوة , ومافائدة الملائكة للناس إذ لايراهم الناس ولايحسون بهم؟ ومافائدة عذاب القبر وتخويف الأحياء بوجوده إذا لايعرفه سوى الموتى , وغيرها كثير ..
 إن طول الغيبة أو قصرها لايدخل في حسابات الانسان المادية , بل تحديد ذلك يعود إلى الخالق تعالى, وإلا لماذا طالت فترة الجاهلية في الجزيرة العربية لمدة خسمة قرون؟ فالنبي الكريم (ص) بُعث بعد أكثر من خسمة قرون من مبعث السيد المسيح (ع), فهل هناك تحليل موضوعي أو جواب على سبب طول تلك الفترة؟ لماذا مثلاً لم يبعث النبي الكريم(ص) بعد مائة عام من رحيل السيد المسيح أو أقل أو أكثر, أن جواب ذلك لايمكن للأنسان قصير العمر على هذه الارض أن يجيب عليه. ومثل ذلك يمكننا القول أن الغيبة الكبرى للإمام المهدي لها سبب لطول مدتها قد نجد بعضا من جواب على ذلك, ولكن لا يمكن الاحاطة بعلم الخالق سبحانه الذي هو أعلم حيث يجعل رسالته.  إن الاستعانة بالواقع الموضوعي قد يساعدنا في توضيح شئ من سبب طول مدة الغيبة , فقد يكون السبب أن البشرية في العهد الحديث هي أكثر استعدادا لقبول ظهور المهدي المنتظر من العهود الماضية, ومن اسباب ذلك هو التقدم العلمي والاكتشافات الحديثة , ففي عهدنا المعاصر اصبح العالم كقرية صغيرة تتيح لبني الانسان سهولة السفر السريع بالطائرات, وسهولة الاتصالات عن طريق الهواتف والحاسبات ( الكومبيوتر), وسهولة معرفة الاخبار عن طريق القنوات الفضائية وغيرها من وسائل ستساهم حتما في تسهيل مهمة الامام عند مخاطبته لشعوب الارض , فمن صور خروجه  التي تتطابق مع التقدم العلمي الحديث قول الامام الصادق فيه من حديث طويل يبشر بخروجه  :
(فينتفض به انتفاضة لايبقي أهل بلد إلا وهم يرون أنه معهم في بلادهم ، فينشر راية رسول الله’عمودها من عمود العرش وسائرها من نصر الله ، لا يهوي بها إلى شئ أبداً إلا هتكه الله ، فإذا هزها لم يبق مؤمن إلا صار قلبه كزبر الحديد).( معجم أحاديث المهدي للكوراني , عن كامل الزيارات لابن قولويه ص 119), تأمل قوله : لايبقى أهل بلد إلا ويرون أنه معهم في بلادهم! وهذه الجملة أعجازية لايمكن تفسيرها إلا بوجود وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف والتلفاز والشكبة العنكبوتية ( الانترنيت) فبهذه الوسائل يمكن للناس أن يروا باقي بقاع الأرض وكأن تلك البقاع عندهم في بلادهم! وقول الصادق هذا فيه تضمين أن خروج المهدي سيتم في عصر التقدم العلمي .
إن التقدم العلمي سهل للأنسان الاطلاع على المعارف وعلى تدوينات المفكرين في كافة أقصاء الارض, ففي عهدنا الحالي أتيح للباحثين الحصول على مراجع الكتب ومصادر الثقافات في الشعوب فانتشر العلم انتشارا لا مثيل له , إن هذه المعرفة السهلة الحصول عرفت  شعوب الارض بثقافات وإديان باقي الشعوب, وعن طريق هذه المنحة العلمية صار عند جموع الناس  معرفة بالاسلام ومعرفة بمن هو المصلح المنتظر المهدي, ولولا هذه التسهيلات العلمية لما عرف الناس مايعرفون. إذن التقدم العلمي له دور في تعجيل ظهور الامام وهذا التقدم لم يحرز خطوات كبيرة في الماضي فطالت غيبة الامام , وهذا كما قلنا  قد يكون سبباً من أسباب لايمكن الاحاطة بها جميعاً.




الاستعداد النفسي والثقافي للناس في العصر الحالي 
إن الامام المهدي فرد واحد لن يأتي بدين جديد , بل الدين هو دين جده النبي محمد(ص)  الذي طالته أيادي التحريف والتشويه ومؤامرات عديدة شملت آل بيت النبي و أتباع النبي المخلصين كما  مر بنا  في الكتاب. إن ضيعة الناس بين التحريفات والتشويهات في دين محمد (ص) أبعدتهم كثيرا عن جوهر الدين وصفاءه, إلا قلة قليلة مستضعفة تسلط عليها الظلمة  فأذاقوها العسف والقتل والنفي , إما الاكثرية من المسلمين فهم كما يقول فيهم النبي محمد (ص):
(  يوشك الأمم أن تداعى عليكم  كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت) ( سنن أبي داوود ج4 ص 11, ومثله في مصنف ابن أبي شيبة ج7, ص 463, مسند احمد ج5 ص 278) 
هذا الغثاء من جموع كثيرة لن ينصر الامام المهدي يوم خروجه, فهم لازالوا يتبعون المحرفين ومنتحلي خلافة النبي وينعقون مع كل ناعق, ويعني ذلك استمرارهم في اضطهاد ومطاردة آل النبي وشيعتهم كما فعل اسلافهم في التاريخ, وإذن ستطول الغيبة, فتعجيل الظهور مرتبط  بوعي المؤمنين , فكمال الوعي ونفي الخبث عن دين محمد (ص) سيولد  أتباع مخلصين للأمام المهدي , هؤلاء الانصار نخبة فذة وقوة خاصة يتفوقون بوعيهم وأيمانهم على آلاف الناس , تحدث عنهم أمير المؤمنين مبشراً فقال من خطبة طويلة يطول شرحها :
(ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل ,تجلى بالتنزيل أبصارهم , ويرمى بالتفسير في مسامعهم ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح , وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير , حتى إذا اخلولق الأجل، واستراح قوم إلى الفتن، وأشالوا عن لقاح حربهم , ولم يمنوا على الله بالصبر , ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق. حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم ، ودانوا لربهم بأمر واعظهم )(نهج البلاغة  ج 2 - الصفحة 36  ). ويقول  امير المؤمنين كذلك (فيجمع الله تعالى قومه؛ قزعٌ كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحدٍ يدخل فيهم، على عدّةِ أصحاب بدر، لم يسبقهم الأوّلون، ولا يدركهم الآخرون، وعلى عدد طالوت الذين جاوزوا معه النهر)
( المستدرك للحاكم ج4 ص544) إن هذه النخبة من المؤمنين تجتمع في يوم واحد وهو يوم خروج المهدي , روى ابن عباس في تفسيره للآية ( أين ماتكونوا يأت بكم الله جميعاً) فقال : (أصحاب القائم يجمعهم الله في يوم واحد) ( الغيبة للطوسي ص 175 ومابعدها , البحار ج51 ص53) .
إن عدم أكتمال عدة أنصار الامام المهدي يؤخر في أعلان ظهوره, فلابد من جد واجتهاد عند المؤمنين لتعجيل ظهورالامام . إما التقاعس والجهل والركون إلى الدنيا  فأنه لن يأتي بإناس على مستوى عال من الوعي والمعرفة وإذن سيكون ذلك سببا من أسباب تأخر ظهور الامام , فشرط الظهور مرتبط بوجود أتباع وأنصار مخلصين, وتعجيل ظهوره لايتم إلا بوجودهم , وهذه نقطة مهمة لأنها ترينا أيجابية غيبة الامام , وليس كما يقول البعض: إن المؤمنين بوجود الامام المهدي إنما هم كسالى ينتظرون قدوم الفرج ! بل الحقيقة هل عكس ذلك تماما , فكلما أزداد وعي المؤمنين وكمل حسن أعمالهم كلما وجد أنصار على مستوى المسؤلية مؤهلون لنصرة الامام وبالتالي يتعجل زمن ظهوره.



مشاركة الاجيال في محن المظالم
من أسباب  طول الغيبة كذلك هو تعرض كل جيل من الاجيال منذ البداية وحتى الان الى ماتعرض إليه أنصار الانبياء المخلصين , فالامتحان مستمر والصراع دائم , يعاني من صعوبة ذلك الامتحان والصراع كل جيل,  فما مر به أنصار النبي الكريم(ص) وما مر به أنصاره المخلصين من بعده يمر كذلك على المؤمنين المخلصين في كل العصور , وتتكرر المواجهات بين قوى الخير والشر  في كل جيل لتصبح معاناة المؤمنين  في صراعهم ضد قوى الشر معاناة واحدة في كل الاجيال وكأن الزمان يحترق في اتون ذلك الصراع فيتلاشى ليبقى الصراع حيا مستمرا يمر به الاولون والاخرون , فيعرف المؤمنون في كل الاجيال ومنذ عهد خاتم الرسالات وإلى اللحظة الحاضرة إن صراع الخير والشر مستمر حتى زمن الظهور , إذن يتأتى لكل مؤمن أن يعيش ماعاشه قبله من المؤمنين, ويعاين في واقعه ذات قوى الشر التي كانت في العهود السابقة ليؤمن أيمانا قاطعا أن هناك مخلصاً سيأتي لينهي هذه المظالم , فالغيبة الطويلة تلغي الازمنة في تاريخ الاجيال وتقرب المؤمنين من بعضهم منتظرين قدوم المخلص بإخلاص وتوق عظيم, وعند ظهوره في الوقت المعلوم يتحقق تفسير الاية  ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)( التوبة 33), فمن المتفق عليه أن رسالة الاسلام لم تظهر على الدين كله حتى الان , فالاية تعني أن الجهاد مستمر قائم حتى تدين الارض جميعا بهذا الدين , ولايتم ذلك إلا بخروج الحجة المهدي ! قال القرطبي عن السدي في تفسيره للآية :
( ذاك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلاّ دخل في الإسلام ) ( تفسير القرطبي ج8 ص 121 , تفسير سورة التوبة , وكذلك مجمع البيان للطبرسي في تفسيره للآية)
كما قلنا أنما هذه محاولة للأجابة عن سبب طول مدة غياب الامام المهدي, وهناك أسباب أخرى بالتأكيد خفيت عنا يجليها الله تعالى لوقتها, وفوق كل ذلك هناك الحكمة الالهية التي تعين طول الغيبة وتقرر زمن الظهور, ذلك الزمن الذي يرجوه المؤمنون ويتوقع ارهاصاته العارفون .

لماذا لم يقم الائمة  بالثورة على الظلمة  ؟
بعد ملحمة كربلاء التي تقدم ذكرها , قامت ثورة التوابين إنتقاما للذين حاربوا الامام الحسين في كربلاء, كان المختار الثقفي قائد تلك الثورة, وأستطاع المختار من قتل جميع الذين حاربوا الامام الحسين سيد الشهداء ,وسيطر المختار على العراق والكوفة رافعا شعار ( يالثارات الحسين), وفي عهده كان مروان بن الحكم وابنه عبد الملك يسعيان لتقوية الدولة الاموية التي كانت تسيطر بضعف على الشام ومصر فقط , أما الجزيرة العربية فكانت تحت سيطرة عبد الله بن الزبير . عرض المختار الثقفي على الامام السجاد علي بن الحسين قيادة الثورة  لكن الامام السجاد لم يقبل العرض على الرغم من أن المختار الثقفي كان ينتقم من أعداء الامام الحسين والحسين والد الامام السجاد كما هو معلوم. فهل فوت الامام السجاد تلك الفرصة لمباركة الثورة التي بها كان يقدر على قطع شأفة الامويين والقضاء عليهم ,وكذلك القضاء على عبد الله بن الزبير في الجزيرة؟  إن أي محلل عسكري وسياسي يرى أن أنسحاب الامام السجاد من مباركة ثورة المختار خطأ فادح , وإضاعة لفرصة لن تتكرر , فلماذا لم يقبل الامام السجاد ذلك العرض الجاهز الذي كان بأمكانه العودة بالناس الى دولة النبي (ص) وعدالة الاسلام؟
بعد سنين يتكرر نفس العرض على الامام الصادق جعفر بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين, وهو حفيد الامام السجاد , وكان الوقت أيام نهايات دولة بني أمية التي كانت على وشك الفناء بقوات  جيوش خراسان التي كانت تحت إمرة مهندس الثورة العباسية أبي سلمة الخلال , فقد عرض أبوسلمة الخلال الامارة والقيادة على الامام جعفر الصادق وكما يلي :
(فبعث ( أبومسلم الخرساني) إلى الصادق جعفر بن محمد ( الامام الصادق) إني قد أظهرت الكلمة ودعوت الناس عن موالاة بني أمية الى موالاة أهل البيت ، فإن رغبت فيها فلا مزيد عليك، فكتب إليه الصادق : ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني ! فحاد أبو مسلم إلى أبي العباس عبدالله بن محمد السفاح وقلده أمر الخلافة) ( النص عن جواهر التاريخ ج4 للعلامة الكوراني , ونقله عن الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 154)
روى المسعودي : (وأخفى أبو سَلَمة أمر أبي العباس ومن معه ، ووكل بهم وكيلاً ، وكان قدوم أبي العباس الكوفة في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وفيها جرىَ البريد بالكتب لولد العباس ، وقد كان أبو سَلَمة لما قُتل إبراهيم الإمام خاف انتقاض الأمر وفساده عليه ، فبعث بمحمد بن عبد الرحمن بن أسلم وكان أسلم مولىً لرسول اللهّ’وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد الله جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( الامام الصادق) ، وإلى أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، يدعو كلَّ واحد منهما إلى الشخوص إليه ليصرف الدعوة إليه ، ويجتهد في بيعة أهل خراسان له ، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ فلا تكونَنَّ كوافد عاد , فقدم محمد بن عبد الرحمن المدينة على أبي عبد الله جعفربن محمد ( الامام الصادق) فلقيه ليلاً ، فلما وصل إليه أعلمه أنه رسول أبي سَلَمة ودفع إليه كتابه فقال له أبو عبد الله( الامام الصادق) : وما أنا وأبو سَلَمة وأبو سَلَمة شيعة لغيري؟! قال: إني رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت . فدعا أبو عبد الله بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق ، وقال للرسول: عرِّف صاحبك بما رأيت ! ثم أنشأ يقول متمثلاً بقول الكميت بن زيد: أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوؤها   ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
 فخرج الرسول من عنده ، وأتى عبد الله بن الحسن فدفع إليه الكتاب فقبله وقرأَه وابتهج به ، فلما كان من غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتاب ركب عبد الله حماراً حتى أتى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، فلما راه أبو عبد الله أكبر مجيئه وكان أبو عبد الله أسَنِّ من عبد الله فقال له: يا أبا محمد أمْرٌ ما أتى بك ! قال: نعم وهوأجَلُّ من أن يوصف ، فقال: وما هو يا أبا محمد . قال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله وقد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان ! فقال له أبو عبد الله: يا أبا محمد ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟! أأنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان وأنت أمرته بلبس السواد ؟ وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وَجَّهت فيهم وهل تعرف منهم أحداً ؟! فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال: إنما يريد القوم ابني محمداً لأنه مهديُّ هذه الأُمة ، فقال أبو عبد الله جعفر: والله ما هو مهدي هذه الأُمة ولئن شهر سيفه ليقتلن ، فنازعه عبد اللهّ القول حتى قال له: والله ما يمنعك من ذلك إلا الحسد ! فقال أبوعبد الله ( الصادق): والله هذا نصح مني لك ، ولقد كتب اليً أبو سلمة بمثل ما كتب به اليك ، فلم يجد رسوله عندي ما وجد عندك ، ولقد أحرقْتُ كتابه من قبل أن أقرأه ، فانصرف عبد الله من عند جعفر مغضباً !) ( جواهر التاريخ للكوراني ج5 ونقله عن مروج الذهب للمسعودي ص890 , وكذلك في أعلام الهداية لمؤسسة الرسالة في سيرة الامام الصادق)
تأمل إعراض الامام الصادق عن دعوة أبي مسلم الخرساني , تلك الدعوة التي زلزلت الدولة الاموية وقضت بأطاحتها ,  فلماذا رفض الامام الصادق تلك الدعوة؟ إنها كانت دعوة قوية ومنتصرة ويتوقع فوزها جميع الناس , فهل خفي ذلك الامر عن الامام الصادق حتى أعرض عنها؟ ليس كذلك فقد عرف الامام الصادق أنها ستنتصر وعرف أن الدولة الاموية ستسقط خلال أشهر قليلة ولكنه أعرض عن الدعوة ,فلماذا؟
في جيل آخر يتكرر المشهد , وتقوم ثورة أبي السرايا التي تقدم ذكرها , تلك الثورة التي كادت تطيح بالعباسيين , ووصل الامر بقوة الثورة أنها أصدرت عملة نقدية جديدة :
(واستوليا على الكوفة، فضرب بها أبو السرايا الدرهم، وسيّر الجيوش إلى البصرة ونواحيها، وعمل على ضبط بغداد، وامتلك المدائن وواسطاً، واستفحل أمره، وأرسل العمال والاَمراء إلى اليمن والحجاز وواسط والاَهواز، وتوالت عليه جيوش العباسيين فلم تضعضعه ) ( بحوث في الملل والنحل للعلامة السبحاني ج7 ونقله عن الاعلام للزركلي ج3 ص 82, تاريخ ابن كثير ج144 ص2). وروى الطبري(وانتشر الطالبيون في البلاد . وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة ، ونقش عليها : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص  )( تاريخ الطبري ج10 ص228) . تقدم بنا أن ثورة ابراهيم بن محمد بن طباطبا وناصره أبو السرايا كانت قد رفعت  شعار الرضا لآل محمد , وهو شعار يرينا تكسب الثورة بشرعية آل محمد, وقوة الزخم الجماهيري لها , فماذا كان موقف الامام الثامن علي بن موسى الرضا من الثورة ؟  على الرغم من أيمان الامام الرضا بعدم شرعية الدولة العباسية فأنه لم يتبنى ثورة أبي السرايا وفي نفس الوقت لم يقف ضدها , وقد يقول قائل كان من السهل للأمام الرضا أن  يتبنى الثورة ليطيح بالعباسيين إلى الابد !  نعم كان من السهل فعل ذلك فثورة ابي السرايا كانت على وشك الاطاحة بالدولة ولم ينقصها سوى مباركة الامام الرضا وتبنيه لها , ولو تم ذلك لعصفت الثورة بالدولة العباسية, لكن الامام الرضا لم يتدخل!
أن سبب أحجام الامام السجاد عن تبني ثورة المختار الثقفي, هو نفس سبب أمتناع الامام الصادق عن تلبية دعوة أبي سلمة الخلال, وهو نفس سبب موقف الامام الرضا من ثورة أبي السرايا, فهذه المواقف الثلاثة ترينا أن مواقف الائمة ورؤيتهم السياسية والمستقبلية لا تفسر بالتفسير المادي المتعارف عليه, فهم ( الائمة) يتفوقون على البشر في رؤياهم وتقييمهم للأمور, وهم يمشون وفق خطة ربانية لايدركها الناس, فمهمة الامام ليست مهمة دنيوية مادية ولا هي مهمة غايتها الوصول للسلطة , فلو سعى الائمة للوصول الى السلطة لوصولها بسهولة , فعندهم شرعية القرابة من النبي (ص) ومعرفة جمة لايتفوق ولم يتفوق عليهم فيها أحد إلى اليوم , وقد عرضت عليهم السلطة كما تقدم  لكنهم رفضوا استلامها لأسباب منها , إن عدد أنصارهم لم يكمل نصابه الشرعي ولم يجدوا أنصارا ذو مرتبة عالية في اليقين والاخلاص  آهلين للتغيير . فما جدوى الثورة على نظام فاسد بالاستعانة برجال غير مؤهلين؟
وهذا يعود بنا إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عندما هرع الناس إليه بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان, فلم يكن الامام علي ساعيا إلى الخلافة فهي كانت له بنص حديث النبي (ص) ووصيته كما تقدم بنا في فصول الكتاب , ولذلك عندما نحاه الخليفة الاول والثاني والثالث ولم يجد الامام ناصرا من الناس فأنه أعتزل السعي للخلافة , ولذلك عند قدوم الناس إليه بعد مقتل عثمان قال لهم : (دعوني وإلتمسوا غيري!) فالناس جميعا خذلوه بعد رحيل النبي (ص) وخانوا أمانة النبي الكريم, فما يجدي أجبارهم على تنفيذ أوامر النبي (ص) إن كانوا هم من تخلى عنها بمحض اختيارهم وإرادتهم. لقد مر قول أمير المؤمنين في فصل ( السقيفة ) أنه لو كان معه أربعين رجلا مخلصا لحارب مغتصبي الخلافة ولكن ذلك العدد لم يكمل نصابه فتخلى أمير المؤمنين عن سعيه للسلطة , ومايجدي تسدي السلطة إذا كان الناس مشتتين متفرقين يركضون نحو الدنيا الزائلة وزخرفها. تأمل أن الامام علي احتاج الى أربعين رجلا مؤهلين لنصرته من بين صحابة النبي (ص), لكن ذلك العدد لم يكتمل ! حتى من بين صحابة النبي (ص) لم يكتمل عدد  أربعين رجلا من صفوة الصفوة , إذن لابد أن يكون اولئك الناصرين ذات آهلية متسامية تفوق بدرجتها درجات الصحابة انفسهم! أن موقف الائمة مثل موقف جدهم أمير المؤمنين فلم يكن لهم أنصارا مؤهلين يكملون العدة لنصرتهم, فما الفائدة من تسدي السلطة لحكم أناس يركضون في الباطل!
 ولذلك يقول الامام علي بعد مقتل عثمان (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضروقيام الحجة بوجود ناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز): (نهج البلاغةج 1,  الخطبة الشقشقية)
ويعني بقوله عليه السلام, انه لولا حضور الناس وطلبهم منه أن يكون خليفة لترك الامر كما هو لأن الناس الذين تخلوا عنه يوم السقيفة وركضوا نحو مغتصبي الخلافة هم أنفسهم من جاءوا اليه يوم مقتل عثمان , فما الفائدة من القيام بالأمر والناس لازالت على غيها ,لكنه قام بالأمر من أجل إقامة العدل ولاسقاط الحجة ولردع الباطل قدر المستطاع  . لقد أمر النبي (ص) المسلمين أن يتمسكوا بكتاب الله وبعترته آل بيته ( راجع تفسير حديث كتاب الله وعترتي في فصل الامام علي) لكن الناس لم يقبلوا بهم وانقلبوا على الخليفة الشرعي الامام علي بن أبي طالب والنبي (ص) لم يدفن بعد ( راجع  فصل السقيفة), إذن ليكن مايكون فلا إجبار للناس ولاإكراه , ليحملوا ذنوبهم وخطاياهم بخيانتهم للنبي (ص) وبخيانتهم لأمير المؤمنين من بعده ولخيانتهم للائمة من بعد كذلك, فالعقبة الأساسية في رفض الائمة لتبني الثورات هي قلة الرجال المخلصين وهو عين ماوصفه النبي الكريم بقوله في المسلمين ( لكنكم غثاء كغثاء السيل), ولهذا السبب عينه أرتبطت غيبة الامام المهدي بندرة الانصار المخلصين, فخروج الامام المهدي لايتم إلا بأكتمال عدة أصحابه وأنصاره المخلصين من صفوة الصفوة حيث يجمعهم الله في ليلة واحدة لينصروا الامام المهدي فيقيم بهم دول العدل .
إن التحليل المادي والسطحي يقرر أن رفض الائمة لنصر الثورات التي طالبت بنصرتهم  كان خطأ فادحا وإضاعة لفرصة ذهبية لن تتكرر, ولكن تبين لنا أن الائمة لايتأثرون بالواقع المادي المحيط بهم فهم يعملون وفق خطة ربانية تتجاوز التفكير الفردي القصير العمر, إذن عدم اكتمال عدة الناصرين سبب مهم في أحجام الائمة عن تبني الثورات وعن التخلي عن انتهاز فرص الفوز الدنيوية التي كانت ستوصلهم للسلطة ,  وهذا السبب يولد سببا آخرا ويرتبط به أرتباطا حتميا وثيقا وهو أن الائمة لهم فهم أعلى من باقي الناس فهم يسيرون وفق الخطة الالهية التي لاتكره ولاتجبر الناس على الايمان فالانسان مخير له الحق في الايمان وفي الكفر, فلو اكتمل عدد الانصار والمخلصين والمؤهلين للسير خلف الامام لقام الائمة بالثورة وأعادوا الامور الى نصابها ولكن ذلك العدد من المؤمنين لم يكتمل , ولابد أنه سيكتمل يوما ما بعد أدراك البشر لفداحة الامر , وعندما يكتمل عدد المؤمنين ذلك ,عندها سيدرك البشر أن هذه المسيرة الشاقة وهذا الانتظار الطويل له يوم خلاص يرتبط  بأكتمال عدة النخبة الموعودة من الناس, تلك التي تجتمع  لنصرة الامام كما يجتمع قزع الخريف, وعندها ستنتهي الغيبة الكبرى لتسطع شمس الغائب المهدي فيملأ الارض عدلا كما ملئت جورا وظلما .


انتهى الموضوع والان ننتقل الى : 11-دور اليهود في المؤامرة \ مؤامرة المسلمين على النبي محمد (ص)
http://grandkhadija.blogspot.com/2017/03/11.html
أحدث أقدم